د.طارق ليساوي*
أشرت سابقا إلى أن الفقر و البطالة وضعف التنمية ليست قضاءاً و قدراً ، و إنما نتاج لخيارات تنموية خاطئة ، و تبعية مهينة لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، و أكل لأموال العامة بالباطل، و الأمر ليس وليد لليوم و إنما تعود جذوره لعقد الثمانينات ففي الوقت التي إختارت ماليزيا ” مهاتير” تبني سياسات تنموية ذات توجه مستقل إختار المغرب في عهد الراحل الحسن الثاني الارتماء في حضن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، و كانت النتيجة أن المغرب بعد مرور أربعين سنة في الرتبة ما بعد 125 عالميا وماليزيا في الرتبة أقل من 20 عالميا. فالخيار التنموي الذي إنتهجه المغرب كان ولازال خاطئا ولن يثمر إلا مانراه من تخلف وفقر وتهميش، فهو خيار تنموي نخبوي ينحاز للقلة المهيمنة، في مقابل تهميش و التضييق على الغالبية، خيار فضل الإستثمار في الفنادق من فئة خمس نجوم و إنشاء ملاعب الغولف، و أهمل الإستثمار في الصحة والتعليم، خيار غلب الاستثمار في الزراعات التصديرية المستهلكة للماء و المعتمدة على كثافة رأس المال و أهمل الزراعة المعاشية المشغل الأساس لليد العاملة و الحور الأساس في تحقيق الأمن الغدائي..
نموذج عام
و ما يشهده المغرب ليس بالنموذج الخاص و إنما نموذج عام يشمل أغلب البلدان العربية بما فيها النفطية التي تعيش إشكاليات جوهرية أكبر وأخطر من التي تشهدها البلدان ىغير النفطية، فبلداننا العربية تعاني من تغلل طابور من الخونة و المتصهينين ، الذين يريدون ضرب اكثر من عصفور بحجرة واحدة، فأولويتهم ليست تحرير هذه البلدان و إعمارها و توسيع خيارات شعوبها ، و إنما غاية الغايات تقييد إرادة الشعوب و تفقيرها وتدجينها، و إدخالها في دائرة العجز أو اليأس المكتسب..
العجز المكتسب
فهناك نظرية تمكننا من فهم كيفية السيطرة على الشعوب و تسمى بالعجز او اليأس المكتسب ، و هذه النظرية النفسية و السيكولوجية تؤكد ان الانسان قد يتملكه الشعور بالعجز تجاه واقعه و قدرته على تغييره، بسبب تعرضه للفشل في المحاولات السابقة او دفعه اثمان باهظة بسبب هذه المحاولات. و هذا الشعور يدفع الانسان إلي الاستسلام للواقع و القبول به كأمر واقع و لا ينبغي مقاومته .. بل يحاول التكيف مع هذا الواقع الفاسد و تعديل المفاهيم و طريقة التفكير و الحكم على الامور لكي يستطيع التعايش مع هذا الواقع ..و هذا العجز قد لا يكون حقيقي و لا ينسج مع القدرات الحقيقية للفرد او المجتمع..و إنما هو نوع من الإيحاء المصطنع الذي يجعل الفرد و المجتمع مصاب بالعجز و الوهب و هذا المفهوم ينسجم مع العبودية المختارة..
غزة الكاشفة
ولا يمكن بهذا الصدد الاكتفاء باتهام القائمين على تدبير شؤون هذه البلدان والاقتداء بغيرهم من شعوب الارض في كوريا و في سنغافورة وفي الشرق وفي الغرب فبناء البلد اقصر الطرق و أنجعها لحل المشاكل البنيوية التي عمرت لعقود طويلة .. و هنا ينبغي التوجه بخطاب واضح وصريح لعموم الشعوب العربية، بأن الحل الامثل لمشاكل وازمات هذا البلد و غيره لا تكمن بهجرته، و لكن بالعمل على تنميته وتطهيره من أوكار الفساد و الاستبداد و العمل على دمقرطة مؤسساته.. هذا هو العمل الجبار الذي ينتظر ابناء هذه البلدان و الاقتداء بأبناء الشعب الفلسطيني عموما و الغزاوي خاصة ، الذي يضحي بالغالي والنفيس من أجل وطن حر و كريم..
تنمية الفكر المقاوم
و من المفارقات التي لا نحاول تسليط الضوء عليها ، ان إسبانيا الذي يحاول ابناء الشمال خاصة الهجرة اليه، مر بمراحل طويله وحروب أهليه قبل أن يصير على الوجه الذي عليه ..هذا بالإضافة إلى تكامله الاقتصادي مع محيطه الأوروبي ..و دورنا كمثقفين و نخب فكرية هو العمل على نشر الفكر المقاوم للفساد و للاستبداد و للظلم و الطغيان الإجتماعي ، و التوعية بمخاطر التفتيت و الشقاق و توضيح مكاسب الوحدة و التكامل و التعاون …و أن نبتعد عن مواطن الخلاف و لو مؤقتا و التركيز على المصالح و القيم المشتركة ، و التركيز على الفكرة بدل الشخصنة ، و على حد تعبير المرحوم مالك بن نبي الذي ميز بن عالم الأشياء و عالم الأفكار و عالم الأشخاص..
أجندة مشبوهة
و الواقع أننا نعاني من تمدد مريب للتفاهة و السخافة و تنامي لعناصر الفرقة و تناسل لا محدود لأسلوب التنابز بالألقاب و قصف البايانات ، و محرك هذه الممارسات ليس الإيمان –بالضرورة – بالفكرة و إنما الهدف في الغالب إسترزاقي أو كما نقول بالدارجة ” الخبز” ، فكثير ممن يروجون لمحاسن الفساد و الاستبداد و التفرقة بين الشعب الواحد و ترسيخ الخلافات الاثنية و الطائفية ، هم من الكتائب الإلكترونية التي تنفذ أجندات مشبوهة أو بعض الأصوات الإسترزاقية، و محرك هؤلاء ليس الدفاع عن مصلحة الوطن ، فلا يختلف إثنان من -العقلاء النزهاء -على أن ما يحدث من شقاق و صراع بارد و ساخن يضر بالتنمية ..و ينبغي أن يكون دستورنا في هذه المرحلة الحاسمة قوله تعالى :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾( آل عمران -103)
عالم الأفكار
و إسمحوا لي ان افتح قوس و أقتبس مقولة لنابليون بونابرت فقد قال بالحرف” إذا أنشأت جيشاً من مئة أسدٍ بقيادة كلب ستموت الأسود كالكلاب في أرض المعركة، أما إذا صنعت جيشاً من مئة كلبٍ بقيادة أسد فجميع الكلاب ستحارب كأنّها أسود..”.. نفس الرجل هو صاحب مقولة ” أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتي لمائة ألف حربة”…و قد اقتبست هاتين العبارتين لأوضح أهمية الفكرة أو عالم الأفكار بحسب تعبير مالك بن نبي ..
مواطن الخبز
فالخلاف بين كلمتي الخبز و الخبر في النقط، لكن بينهما بون شاسع ، وذلك البون حاصل بين الطبيعة و الثقافة، فالمواطن العادي همه الجامع و الكبير و الأساسي ،هو توفير الخبز و المعيش اليومي، وقد يستدل على ذلك بالحديث النبوي الشريف ، فقد قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه البخاري في “الأدب المفرد” (رقم/300))..فالبعض منا يعتقد بتوفيره هذه الأساسيات الأمن و الملبس و المأكل و المسكن ، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها و هو ما يسميه بعض المغاربة بعبارة “وصل” ، فقد وصل بنظرهم إلى “سدرة المنتهى”…؟؟!!
رسالة الإستخلاف
هذا التصور هو تصور رجل الشارع و المواطن البسيط الذي لا يتطلع و لايطمح إلى صناعة التغيير و إلى عمارة الأرض و إلى القيام برسالة الإستخلاف كما حث عليها الإسلام، و لايطمح للحرية و التحرر و إقامة مجتمع العدل و المساواة و الكرامة، و العيش الكريم الذي يليق بالإنسان الذي كرمه خالقه ورازقه، فالإنسان هو محور الكون، و محور الخطاب القرآني، فهو المخاطب الرئيس في القرآن، والقرآن لأجله نزل، ولا عجب في ذلك، فهو أكرم مخلوق على الله، وقد فضله سبحانه على كثير ممن خلق، يقول سبحانه و تعالى في محكم كتابه: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (سورة الإسراء الاية 70)…فالإنسان يرتفع بالمعرفة لا بالخبز ، المجتمع يترقى بالخبر و تداول المعلومة ، لا بالخبز و البطنة …و هو ما نبه إليه مالك بن نبي عندما ميز بين العوالم الثلاثة : الأفكار و الأشياء و الأشخاص..
مواطن الخبر
و إذا غيرنا التنقيط سوف يتحول “مواطن الخبز” إلى “مواطن الخبر” ، هذه النقطة تنقلنا من مجتمعات العصور الوسطى في أروبا الإقطاعية، إلى مجتمعات المعرفة و لعل حضارة المسلمين في العصور الوسطى و رقيهم الحضاري كان بتركيزهم على مجتمع الخبر و المعرفة…
العلاقة الجدلية بين عالم الأشياء و الأفكار و الأشخاص في فكر مالك بن نبي و العلاقة الجدلية بين الخبز و الخبر بلغتنا الصحفية المبسطة يمكن ان نستدل عليها بقصة الهدهد و نبي الله سليمان و ملكة سبأ…
فالنبي سليمان ملك حيزت له الدنيا و الكون و خضع لسلطانه الإنس و الجن و الطير ، فالكتب المقدسة، أجمعت على أن الله سبحانه وتعالى، آتى سليمان ملكا عظيما، وسخر له كل شىء، الريح والطير، والنمل، والجن، وتسبيح الجبال وعلماً بالقضاء.. مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه فى سورة النمل: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، وفى سورة سبأ: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)…
نبأ عظيم
هذا النبي الملك رغم ما أوتي من سلطان و ثراء و ملك واسع و سلطة لا مثيل لها عبر كل العصور، إلا أن عطشه للمعرفة ظل قائما…فعندما غاب الهدهد عن نبي الله سليمان بلا إذن ودونما مهمّة تبرر غيبته، وتبعا لذلك، توعده نبي الله بالعذاب، إلاّ إذا جاء بعذرٍ يبرر به غيبته وينجو من العذاب، فلما وصل الهدهد إلى النبي سليمان قال له: علمت بشيءٍ غاب عنك علمه ولم تَصِلُك بشأنه الأخبار، فأخبره أنه وجد قومًا في أرض اليمن تحكمهم امرأة يُقال لها بلقيس، لها عرشٌ عظيم وآتاها الله من أسباب الملك والقوة والسعة في الدنيا، وأخبر الهدهد سيدنا سليمان – عليه السلام- أن قوم بلقيس قد زين لهم الشيطان أعمالهم وصدهم عن الهداية، فوجدهم يسجدون للشمس من دون الله عزّ وجلّ…فالهدهد لم يشفع لغيابه لدى السلطان سوى حمله لنبأ/خبر…
هدهد سليمان
فلما أنهى الهدهد حديثه قال له النبي سليمان، أنّه سينظر فيما أخبره به، ويتحرّى قوله ليعلم إن كان صادقًا أم كاذبًا، وذلك بأن أرسل الهدهد إلى بلقيس بكتاب منه ونص الكتاب “من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين”، ثمّ طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، فألقى الهدهد الكتاب عند بلقيس وهي في قصرها، فجمعت أشراف قومها لتشاورهم بما جاء في الكتاب، فتركوا الأمر لها بين القتال أو سواه، بعد أنّ بيّنوا أنّهم قومٌ أصحاب قوة، ولهم باعٌ في القتال والحرب…
عرش بلقيس
و قد بعثت بلقيس إلى النبي سليمان بهدية مع رُسُلِها، لتعلم أهو ملِكٌ أم نبي، فلما أخبروها كيف ردّ سليمان – عليه السلام – الهدية، وأن ما عنده خيرٌ مما عندهم تبين لها أنّه نبي وليس لهم طاقة بمواجهته، فخرجت بملوك قومها من سبأ إلى سليمان – عليه السلام- وأرسلت اليه أنّي قادمة إليك، لأعرف ما هو أمرك، وما تدعونا إليه من دينك، فبلغ ذلك سليمان عليه السلام، أنّ بلقيس وقومها سوف يأتوا إليه ويؤمنوا برب العالمين ورسوله، فسأل الملأ والأشراف من حوله، من يقدر على أن يأتي بعرشها إلى مجلسه قبل وصولها إليه. فقال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك الذي تقضي به بين الناس وكان هذا المجلس مدّته من الصبح إلى قبل الظهر، فأراد النبي سليمان أسرع من ذلك، فقال رجل من بني إسرائيل آتاه الله العلم ” أنا آتيك بعرشها قبل أن يرتدّ إليك بصرك”، أي أنّك إذا أرسلت بصرك إلى شيء فإن العرش يكون بين يديك قبل أن ترّده، وكان كما قال من إحضار العرش..و يصور لنا القرأن الكريم هذا الحوار بقوله تعالى : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(سورة النمل الآية 27)..وقد أحضر النبي سليمان عرش بلقيس، ليٌريها عجائب ما عنده، وعظيم قدرة الله تعالى، وصدق نبوته، وذلك لأنّ المسافة بين بيت المقدس وسبأ مسير شهرين، ولكي يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، لأنّ العرش سرير الملكة. ..
فسليمان عليه السلام لم يكن في حاجة للثروة فلديه ما يكفيه منها، و لم تغريه هدايا الملكة بلقيس و ثروتها…بل كان رده على ماديتها هو أن أجاب عليها بذات الأسلوب و الذي سنقول عنه مجازا ” و فوق كل ذي غني هناك أغنى” و سبحان الغني مالك الملك… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*كاتب و أكاديمي مغربي.
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …