فؤاد البطاينة*
لدى كل دولة ثوابت. وهذه الثوابت هي مرجعيات تشكل الخطوط الحمر لأصحابها. وما دونها قابل للتفاوض والتنازلات والتغيير وصولا للحفاظ على هذه الثوابت .وتكون هذه الثوابت مرتبطة بأهداف غالبا ما يعتبرها أصحابها سواء كانوا بشراً أو دولاً مسائل لصيقة بحياتهم أو مصالحهم العليا أو بثقافتهم أو بوجودهم. وغالبا ما تصبح هذه الثوابت قضية كبرى عندما تواجه تحديات تنتقص منها أو تهددها. وبناء على هذا الطرح الذي يشكل مفهومي أو جزءا منه فإني أسقطه على القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط الذي أججه تصهين دول عربية أدى إلى عربدة الصهيو أمريكي من جهة، ومواجهتهم من جهة أخرى من قبل إيران ومحورها كقوة رادعة لهذه العربدة افتراسية الطبيعة . وقلنا سابقا بأن هناك توازن الردع، وهناك توازن اخر هو توازن الرعب الذي لا تمتلكه إيران. وسنأتي لذلك.
الشيء المرتبط بما سبق والمهم جداً، هو مفهوم التغيير. فلا بقاء لمن لا يتغير مع المتغيرات على الأقل. وإلا فلا بقاء أو ضمانة للثوابت وأهلها . وفي هذا مثلٌ أو حكمة انجليزية تقول If you do not change you die .وأقصد هنا التغيير الإيجابي المواجه للتحديات والمستجيب لاستحقاقاتها وليس المستسلم لها . فكل شيء في هذا الكون متحرك ومتحور.وحتى ما نسميها بالجمادات هي في الواقع في حركة ذاتية مستمرة .وفي العلاقات الدولية كما يعرف الجميع لا يوجد صداقات وتحالفات دائمة ولا عداوات دائمة لأن ما يحكم كل هذا، هي المصالح عندما تتقاطع وتتوافق مع بعضها، أوعندما تتناقض مع بعضها، أو عندما تتناقض استراتيجيات الدول التي تعتمدها لتحقيق مصالحها. وهذا يقع في صلب حتمية التغيير .
وفي سياق ما تقدم عن مفهوم التغيير، ليعلم بعض المتحدثين بلا حساب، بأن بوصلتي السياسية والأخلاقية ككاتب أو كعربي أو مسلم، هي القضية الفلسطينية، ولا مهادنة في هذا. فهي التي تحدد مصير بلدي الأردن وكل بلدان الوطن العربي والمنطقة. وتقييمي للصديق والعدو من الدول يقوم على أساس مواقفها من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وليس من دولة أو نظام عندي فوق النقد . وكلما تغير المنقود سلبيا أو إيجابياً يتغير تقييمي وموقفى تبعاً لذلك . فلا وجود للتعصب عندي، ولا للمواقف المسبقة . لقد دافعت عن تركيا عندما بدأت تبني نفسها وتأخذ مواقف سياسية أفضل من حكوماتها السابقة، وعندما قضت على عسكر يهود الدونما وسياسة اتاتورك الصهيونية المعادية للاسلام والعرب، وأعطيتها فرصة ككاتب لتقضي على ثقافة الكثيرين من بقايا التراث الغربي الصهيوني التي طمرت ثقافة الشعب التركي الشقيق، ومن ثم التقدم نحو مركزها السياسي الاسلامي باتجاه فلسطين، ولكن عندما مرت السنين ولم تتقدم خطوة للأمام واستمر اعترافها وعلاقاتها بالكيان عادت لي كقيادة، خائنة لشعبها المسلم وخائنة للاسلام والمسلمين والأقصى. والأكثر إيلاماً انها تتفرج على ما يجري في غزة وتتعاون مع الكيان وتمده باحتياجاته. أما إيران فقد انتقدتها كثيرا في مسائل تختلف جذريا عما يتكلم به البعض من اتهامات ترشح ظلما وطائفية أو خيانة لفلسطين ومقدساتها وقضيتها. لكن أن يستمر هذا الهجوم على إيران ونحن في هذه الشدة التي لا يقف معنا فيها بعد الله سواها ومحورها المقاوم، فأمر قد يرقى للكفر والتصهين.
وهنا نأتي الى السياسة كفن في إدارة الصراع واقتناص الفرص وتذليل الصعوبات. فلست عالما بنوايا الدول أو معطياتها عندما أراها مخطئة أو صائبة في اتخاذ القرارات، ولكني أكتب بموجب معطياتي. ومثال ذلك الخلاف التركي السوري على خلفية احتلال تركيا لأراضي سورية قلب العروبة. وبصفتي متابع للوضع في تركيا وخاصة أثناء الإنتخابات الأخيرة، فكان معلوماً أن الغرب وخاصة أمريكا حشدت أحزاب المعارضة على تناقضاتها تحت مظلة سفارتها في انقره ودعمتها بكل الممنوعات للتخلص من أردوغان بهدف الانقلاب على فكرة الديمقراطية في تركيا، وذلك لخطر وجود الديمقراطية في أي بلد عربي أو اسلامي على أمريكا والكيان حتى لو كان هذا البلد حليفاً لأمريكا ويخدم اسرائيل . فحجب الديمقراطية أو الدكتاتورية الوطنية عن الأوطان العربية والإسلامية هي من الثوابت عند أمريكا والكيان . وكان فوز المعارضة سيضع تركيا رهينة بيد أمريكا، وكان أردوغان حينها محتاجاً لتقاربه من سوريا ورمى بنفسه عليها، وبالتالي كان أكثر استعدادا لتلبية الطلبات السورية المُحقة . وبالنتيجة عاد أردوغان لأسباب لا أعرفها على وجه الدقة للطلب بالجلوس والتفاوض مع الأسد .ولكن من موقف أقوى، ونفس أطول من ذي قبل .ويجب أن نعلم هنا بأن وجع تركيا وخطها الأحمر هو اقامة دولة كردية\أمروصهيونية على حدودها.
والآن نسمع ضجيجا وتشكيكا من الكثيرين حول تأخر رد إيران واليمن على جرائم الكيان.وهذا برأيي من قبيل الشغب أو قصر الرؤية السياسية . فلا يمكن أن يكون التأخير إلا لسبب يصب في صالح غرض استراتيجي الطبيعة، فالرد أو التهديد الايراني يحسب له ألف حساب تدفع لدراسة عقلانية الرد، والمتوقع أن يكون قاسيا ودرسا للكيان. فمثل هذا الأمر بالتأكيد يخضع لميزان وموازنة ايرانية دقيقة تؤدي باعتقادي إلى شرط ضمان عدم الرد على الرد. فالرد الإيراني إذا كان مؤثراً وفي عمق الكيان وليس لقواعد عسكرية للكيان كتلك التي في أذربيجان مثلاً ـ فقد يتسبب في حرب إقليمية يثيرها الكيان وتنجر اليها أمريكا .وهنا مهما كانت الأضرار على أمريكا والكيان فستكون على إيران أكبر .وربما مدمرة لصعوبة التعويض وتعطيل مشاريع استراتيجية كبرى وصنع مشاكل داخلية معقدة .وكل هذا أيضا ينعكس سلبا على محور المقاومة وعلى القضية الفلسطينية.
إيران ليست غافلة عن هذا وعن التقييم الصحيح. وهذا ما ينقلنا للتأكيد على ضرورة تجاوز إيران لتوازن الردع والإنتقال الى توازن الرعب الذي يمنع امريكا والكيان من القيام بحرب اقليمية ومن مهاجمة ايران كما فعلوا مع العراق مثلاً. وتوازن الرعب يتحقق بامتلاك ايران للسلاح النووي، وهو السلاح الذي لا يريد طرفا في العالم استخدامه لأن استخدامه لا يصنع نصرا لطرف بل هلاكا للجميع. أما امتلاك الكيان لهذا السلاح مبكرا فمرتبط بأهداف أهمها مقولة “عليّ وعلى أعدائي”. وهو ما يوجب علينا تحقيق غرضنا دون قدرتها أو حاجتها إلى استخدام هذا السلاح. وهذا يتم في حالة واحدة، وهي التحرير بالمقاومة الشعبية وحرب العصابات التي وحدها تقنع الكيان بالاستسلام في المحصلة والبحث عن حل سلمي للرحيل الأمن . أو لأي حل تكون فيه فلسطين حرة تحت السيادة العربية الفلسطينية.
وبناء عليه فإني لا أعتقد امتلاك ايران للنووي خطاً أحمر عند أمريكا وهي المتأكدة من أنه لا شيء ولا أحد يستطيع منع ايران من أن تنجز السلاح النووي أجلا أم عاجلاً . ولذلك قدرها هو السعي لجعل إيران باكستان ثانية. ولكني أعتقد بأن إيران نووية يُشكل عند الكيان خطرا وجودياً عليها من حيث أن امتلاك إيران لتوازن الرعب سيكون عندها سبباً لا يُقاوم في بقاء محور المقاومة وسلامته وتعزيزه بما يعنيه هذا من حتمية التحرير.. مع أني اعتبر صمود المقاومة الفلسطينية في غزة يستحق منا التفكير بحقيقة وجود مفهوم المعجزات الديني الذي لا يستوعبه العقل البشري العلماني على الأق . وإذا كان هذا هو الواقع فقد نكون الأن في حرب تحرير ابتدأت بطوفان الأقصى وتنتهي بانهيار الكيان.
*كاتب اردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …