د. جواد الهنداوي*
لا توجد دولة في العالم تخلو من فساد ،وبالمعنى الواسع ، والأصناف المتعدًدة لمفردة ” فساد ” .
تلّوث الدولة بالفساد يشبه حالة تلوث الهواء ؛ في أنقى بيئة ، نجد نسبة بسيطة من تلوث في هواءها ،لذلك عمدت الدول المهتمه في التلوث والبيئة إلى نصب اجهزة في المدن لقياس تلوّث البيئة ،ويوجد حد ادني مقبول للتلوث ،وحين يرتفع التلوث إلى اكثر من الحد الادنى المقبول تسارع الدولة إلى وضع السبل السريعة و الكفيلة بالمعالجة . كذلك الفساد ،نجده في الدول المتقدمة و المحكومة بقضاء نزيه و عادل ،ولكن بنسبة قليلة جداً و مستتّر ،و لا يُرى بالعين المُجرّدة ، ومجاله ليست موازنة دولة او ميزانية وزارة او قطع اراضي او ودائع مصرف معين ،و انما استغلال امتيازات المنصب لاغراض شخصية و عائلية او لوجود سبعة وظائف وهمية في مؤسسة معينة ( مثلما حصلَ مع الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ، عام 2011 ، حين وجهّت له تهمة وجود سبعة وظائف وهمية في بلدية باريس عام 1997 , وحينها هو كان عمدة باريس ) ، او وقبول هدايا ذات قيمة من اطراف اجنبية ، او الاشتباه بقبول قرض من مصرف اجنبي مكفول بدولة اخرى ( مثلما حصل للسيدة ماري لوبن ،رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية ،حيث اتهمت بحصولها على قرض مع تسهيلات من دولة روسيا ) . قبل ايام ،وَجهّت منظمة اهلية في العراق ،تهتم بحوار الأديان و التاريخ و التراث ،دعوة ،و عن طريقي ،الى المسؤول عن الدائرة المختصة في الاتحاد الأوربي ( المفوضية الاوربية ) ، و اخبرته بأن إقامته و تذكرة الطائرة ستتكفل بها الجهة الداعية ، قبِلَ الدعوة ولكن رفض بأن تكون تذكرة السفر و الاقامة على عاتق الجهة الداعية ، وقال ،التعليمات لا تسمح بذلك ، والاتحاد الأوربي سيتكفل بنفقات السفر و الاقامة ، وعندما طلبت منه معرفة السبب ،قال : تفادياً وتحاشياً لاي اتهام برشوة او فساد او شراء الذمم .
بقيَّ الفساد صغيراً و مستتًرا في الدول المحتكمة لقانون ولقضاء فاعل وعادل ونزيه، ولكن وللأسف في العراق وفي لبنان ،أصبح كبيراً وعلناً ثُم ” ساد ” ، كما يصفه الشاعر العراقي أحمد مطر حين يقول “كان الفساد صغيراً ثُّم كبر ف ساد”.
أصبح الفساد، و بأسوأ صوره و اشكاله ( سرقة اموال الشعب ) ، ظاهرة مستقرّة في العراق وفي لبنان ، وله بيئته السياسية الخصبة لتنميته ،و اثاره الاقتصادية و الاجتماعية والنفسيّة على المواطن والمجتمع والدولة.
يُصبِحْ المواطن على خبر وفضيحة فساد ويُمسي على أُخرى . كلمة “فساد” هي المفردة الأكثر تداولاً بين الناس ،حتى انها ( و اقصد كلمة فساد ) فازت ،في التكرار على السنة الناس ،على المصطلح العراقي المعروف ” شكو ماكو”.
الأمر الأخطر في الفساد ليست المليارات المسروقة فقط، سواء في سرقات القرن في العراق او سرقات الودائع في لبنان، وانما استقراره في المجتمع ،حيث أصبحَ ظاهرة :
“ظاهرة مستقّرة” قادرة على انتاج “مواطن مُستقرْ”، تعايشَ وأدمنَ على الفساد، وهّمه لقمة العيش و مواجهة الأزمات، واهمها ازمة الكهرباء.
كتبَ المفكر الفرنسي ( كاتب و قاضي 1530 -1563)، اتيان دو لا بوسي ،في كتابه العبودية المختارة او الاختيارية (ترجمة صالح الأشقر، دار الساقي ،طبعة 2016 ) ، عن ظاهرة “المواطن المستقر”، في ظّل نظام مُستبد و فاسد ،حيث تنحصر اهتمامات هذا المواطن المستقر في ثلاثة أشياء: لقمة العيش، كرة القدم، والدين السطحي .
والدين السطحي ، لا علاقة له في الحق و العدالة ،و انما هو أداء للطقوس التي نشأ و اعتاد عليها المواطن.
الفساد ،والذي سادّ في كلا البلديّن ، سياسي بأمتياز ، و يمارس بغطاء سياسي و بآليات سياسية و ادارية تسمح بسرقة مليارات الدولارات ،وبشكل منتظم و مستمر .
لماذا يستفحل الفساد ،وبهذه الصورة في العراق ولبنان ؟
ماهي الاسباب ؟
هل النظام السياسي المبني على المشاركة او المحاصصة لكل مكونات المجتمع هو السبب ؟
هل الاحزاب السياسية تنظر إلى تداول السلطة فرصة مواتية للأثراء و الاستحواذ ؟
هل التدخلات الخارجية الصلبة و الناعمة والتي يعاني منها العراق ولبنان لها مصلحة في انتشار الفساد و اضعاف البلديّن ؟
هل نعاني من داء انعدام الولاء للدولة ؟
فسّرتُ ظاهرة الحواسم التي عاشها العراق بعيد سقوط النظام عام 2003 ، حين ساد النهب و السلب لقصور الرئاسة و دوائر الدولة وبيوت المسؤولين ، بمؤشر انعدام الولاء للدولة ،لانَّ المواطن يشعر بأنَّ الدولة وممتلكاتها و خيراتها مُصادرة من قبل السلطان او الحاكم الجائر ، وهذا شعور متراكم منذ تأسيس الدولة في العراق .
يا ترى هل ترسّخ هذا الشعور لدى بعض السياسيين وتطبعوا على سلوك ” الحوسمة “،ولكن بأسلوب يتناسب مع الديمقراطية وتعدد الاحزاب والحاجة إلى الدولارات من اجل تداول السلطة ،إلا وهو ( و اقصد الأسلوب ) سرقات القرن .
مَنْ لهم المصلحة في ان تكون لبنان ويكون العراق دولتان فاشلتان ، لا بسبب الحصار و العقوبات و الإرهاب ، و لكن بسبب الفساد و اثاره الكبيره على الدولة والمواطن و المجتمع ؟ مَنْ منّا لا يعرف الجهات التي حمت و رعت لعقود من السنيين مهندس سرقة الودائع وانهيار البنوك في لبنان ، والذي سُمِحَ بحبسه الآن ،وتحت حماية خوفاً من تصفيته وضياع الأدلة و الاعترافات و الوثائق ؟
تعدّدت السرقات في العراق ،ولضخامة مبالغها ، حصلت على لقب ” سرقات القرن ” ، مليارات دولار من الموازنة ،مليارات دولار من الودائع الضريبية ،مليارات دولار من الموانئ ، اراضي بمئات الدونمات و تقدر قيمتها بمليارات دولار ، و المعلومات على ذمة ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي وما يدليه بعض السياسين من تصريحات ،و وفقاً لاخر مؤتمر صحفي للقاضي حيدر حنون ،رئيس هيئة النزاهة في العراق ،بتاريخ 2024/9/4 .
بعض القادة السياسيين في العراق يطالبون بمحاكمة علنية للمتهم . و المتهم ، وفي مقابلة له على قناة الشرقية ( فضائية عراقية ) بتاريخ 2024/8/17 , يطالب هو الآخر بمحاكمة علنية، على غرار محاكمة صدام حسين .
هل ستأتي هليكوبتر لإغاثة وانتشال من هو خلف القضبان في بيروت، والمتهم بسرقة الودائع وغيرها من التهم؟
وهل سيُسدل الستار على ذكر المتهم بسرقات القرن في العراق وتصبح القضية طي النسيان، وتمّرُ على ” المواطن المُستقر ” ، بفعل تأثير ما يُولد من احداث و مفاجئات كل يوم في العراق ، وكل حدث و مفاجأة تنسخان ما قبلهما؟!!
*رئيس المركز العربي الأوربي للسياسات و تعزيز القدرات /بروكسل
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …