د. كمال ميرزا*
الكيان الصهيونيّ هو أكثر مَن يعرف أنّه عاجز عن فرض أمر واقع جديد في جنوب لبنان، وهو أكثر مَن يعرف أنّ القصف الجويّ مهما كان كثيفاً ومركّزاً فهو غير كافٍ لتحقيق الحسم على الأرض، وهو أكثر مَن يعرف أنّ إقدامه على القيام بعمليّة بريّة في جنوب لبنان هي أكبر حماقة يمكن أن يُقدم عليها في السياق الحالي، وأكبر هدية يمكن أن يمنحها لمقاتلي المقاومة المتعطشين لمنازلته وتصيّد آلياته وجنوده كـ “البط”!
ولو كان الكيان الصهيوني ينتوي فعلاً القيام باجتياح برّي لما أقدم على فضح وحرق ورقتي أجهزة (البيجر) و(الووكي توكي) بشكل مبكّر، ولأرجأ استخدامها للوقت الذي يكون فيه وقعهما وأثرهما أشدّ ما يكون: أي في ذروة ما أنّ أتون المواجهة البريّة مشتعل والاشتباكات المباشرة في أوجها.
الكيان من خلال كشفه عن اختراقه لشبكة اتصالات “حزب الله”، وإيحائه بأنّه ما زال يمتلك المزيد من الخروقات والمفاجآت، والتصريحات التي يبثّها من حين لآخر على لسان عسكريّين متقاعدين أو مسؤولين سابقين أو محلّلين مزعومين بأنّه كان وما يزال قادراً على الوصول لأمين عام “حزب الله” السيد “حسن نصر الله” متى شاء، وإطلاق التهديدات تلو التهديدات تلو التهديدات، وتوسيع نطاق قصفه الهمجيّ مستهدفاً المدنيّين في شتّى مدن وبلدات الجنوب.. الكيان من خلال كلّ ذلك يحاول أن يحقّق بـ “الرعب” ما هو عاجز عن تحقيقه و”مرعوب” من القيام به والإقدام عليه على الأرض.
ومرّة أخرى نجد أنفسنا إزاء نفس النمط الذي شاهدناه في غزّة على مدار ما يقرب العام الكامل: استهداف إجراميّ للمدنيّين بدعم وغطاء أمريكيّ وغربيّ، وصمت دوليّ وأمميّ (باستثناء التحذير)، وتواطؤ وتخاذل عربيّ وإسلاميّ (باستثناء الشجب والندب)، وأسلحة وذخائر أمريكيّة وشمال أطلسيّة، ومحاولة تحقيق نفس “الأمل الخائب” بأنّ الاستهداف الهمجيّ والعشوائيّ للمدنيّين والعزّل، وإزهاق أرواحهم، وتدمير منازلهم ومعاشاتهم.. سيؤلّبهم ويدفعهم للانقلاب على “حزب الله”، ومن ثمّ سلب المقاومة إحدى أقوى الأوراق التي في جعبتها في الجنوب اللبنانيّ: ثقة ودعم وصمود الحاضنة الشعبيّة!
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: إذا كان الكيان عاجزاً عن تحقيق النصر أو على الأقل الحسم في جنوب لبنان (وبقية جبهات الإسناد)، فلماذا يصرّ على كلّ هذا التصعيد، وتشتيت قوّاته وموارده وتركيزه بهذه الطريقة؟
الإجابة ببساطة غزّة!
الكلب المسعور “نتنياهو” وعصابة حربه يريدون في هذه المرحلة لفت الأنظار وتشتيت الانتباه عن غزّة، ليس من أجل التعتيم على فشلهم وإخفاقهم وورطتهم فيها كما يتصوّر الأغلبيّة، بل حتى يتسنى لهم استكمال مخطّطاتهم الشيطانيّة هناك، وشراء فسحة من الوقت ليتمكنوا شيئاً فشيئاً و”بهدوء” وبعيداً عن زخم الأضواء (سيما بعد تمويت المفاوضات) من خلق أمر واقع جديد على الأرض، وذلك في ضوء ما يتمّ تداوله والتمهيد له من تحويل شمال قطاع غزّة إلى منطقة عسكريّة مغلقة، وتفريغه بالكامل، وتصفية أي جيوب للمقاومة فيه، وصولاً إلى إتمام إعادة احتلاله وضمّه هو وساحله وثرواته ومقدّراته إلى حدود الكيان (وبعدها يأتي الدور على جنوب القطاع).
أي أنّ مركز الحرب هو غزّة، ومبتدأها هو غزّة، ومنتهاها هو غزّة، وكلّ التصعيد الذي تقوم به عصابة الحرب الصهيو – أمريكيّة في الشمال الغاية منه أن يصبّ في نهاية المطاف في غزّة (والضفّة).. وهذه هي الحقيقة التي لا ينبغي أن ننساها أو نغفل عنها ولو للحظة، وألّا نسمح للإعلام الذي يحاول قيادتنا وتوجيهنا كالأنعام أن يسوقنا ويأخذنا ويجرفنا بعيداً عنها.
كما أنّ تحقيق الحسم في غزّة هو أسهل طريقة (بل الطريقة الوحيدة) أمام الكيان لتحقيق الحسم في بقيّة جبهات الإسناد؛ ففي حال هزيمة غزّة لا سمح الله لا يعود لجبهات الإسناد هذه أي معنى، بل تغدو بمثابة استنزاف بلا طائل لأصحابها!
ولعل “حزب الله” وأمينه العام السيد “حسن نصر الله” هم أكثر من يدركون هذا، ومن هنا يأتي تأكيد “نصر الله” في كلمته التي ألقاها مباشرة عقب مجزرتي (البيجر) و(اللوكي توكي) بأنّ جبهة الإسناد اللبنانيّة لا يمكن أن تتوقّف إلّا بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة ترتضيه المقاومة الفلسطينيّة ويلبّي شروطها، ومن هنا يأتي تصريحه في بدايات إنطلاق “طوفان الأقصى” بأنّ غزّة يجب أن تنتصر (والنصر هنا يعني إفشال مخطّطات العدو وإحباط أهدافه)، ومن هنا يأتي إصرار “حزب الله” على إدارة المعركة والتصعيد بطريقة تصبّ في مصلحة “غزّة” ونَفَسِها الطويل، وليس من خلال ردود الأفعال التي يحاول الكيان ابتزاز الحزب واستدراجه إليها.
خلاصة الكلام: غزّة أوّلاً، وغزّة أخراً.. والبقيّة تفاصيل!
*كاتب اردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …