الجمعة , نوفمبر 22 2024
الرئيسية / اراء / الأنظمة العربية وإجهاض التحرر!

الأنظمة العربية وإجهاض التحرر!

ميشيل شحادة*
منذ فجر القرن العشرين، ومع بروز آثار الحرب العالمية الأولى، بدأت ملامح مؤامرة كبرى تتشكل لترسم مستقبل العالم العربي على أسس مشوهة. تلك المؤامرة تجلت بوضوح في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، حيث اتفقت بريطانيا وفرنسا سراً على تقسيم العالم العربي وتحويله إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة التي تفتقر للقوة والاستقلالية، مما يخدم مصالح القوى العظمى بشكل مطلق. لم يكن التقسيم مجرد تقسيم للأرض، بل كان بداية لفصل الشعوب العربية عن بعضها، وإقامة كيانات مصطنعة تابعة بشكل مباشر للقوى الغربية، مما جعلها غير قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي والانماء.
لكن المخطط لم يقتصر على تقسيم الحدود الجغرافية فحسب؛ بل صمم نظاماً سياسياً معقداً، أشرفت على تنفيذه أنظمة عربية مصطنعة تابعة مستفيدة. لم تُخلق هذه الانظمة لتهتم بتحقيق طموحات الشعوب العربية في الحرية والاستقلال، بل لتسع إلى الحفاظ على بقائها من خلال التآمر ضد أي حركة تحررية تهدد استقرارها أو تكشف تبعيتها المطلقة للقوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
ad
تآمر الأنظمة العربية: خنجر في خاصرة حركات التحرر
من أبرز أمثلة التآمر الرسمي العربي على حركات التحرر كانت الخيانة الواضحة للقضية الفلسطينية منذ الإعلان الصهيوني عن هدفه باستيطان فلسطين. بدلاً من دعم المقاومة الفلسطينية التي تشكلت كرد فعل لهذا التهديد، اختارت بعض الدول العربية التآمر مع العدو الصهيوني، مما أدى إلى إضعاف القضية الفلسطينية وهزيمة مقاومتها. واوصلنا هذا التآمر إلى الدخول في حقبة أوسلو المشؤومة التي أسفرت عن تفكيك منظمة التحرير الفلسطينية. وامتد هذا التآمر إلى مناطق عربية أخرى، كما حدث في مصر مع ثورة يوليو 1952، حيث عملت أنظمة سايكس بيكو على احتواء أو إجهاض هذه الثورة التي رفعت راية التحرر الوطني والوحدة القومية، لأنها رأت فيها تهديداً لنفوذها الرجعي ولمصالح أسيادها في الغرب.
وفي الحرب الأهلية اليمنية (1962-1970)، تدخلت السعودية بدعم الملكيين ضد الجمهوريين المدعومين من مصر، في محاولة للحفاظ على نظام ملكي رجعي يخدم مصالحها ومصالح الغرب الإمبريالي. وفي حرب الخليج الأولى (1980-1988)، اصطف العديد من الأنظمة العربية ضد الثورة الإيرانية بتوجيهات من الولايات المتحدة لاستنزاف الأمتين العربية والإيرانية، مما أدى إلى إضعاف المنطقة ككل، وهو ما كان يخدم المصالح الإمبريالية بشكل مباشر.
الغرب والأنظمة العميلة: تبعية وهيمنة
الهدف الواضح من هذا التآمر كان الحفاظ على استقرار الأنظمة العميلة، التي كانت تعتمد على دعم الغرب لضمان بقائها في السلطة. هذه الأنظمة رأت في حركات التحرر العربية تهديدًا وجودياً، لأن هذه الحركات كانت تدعو إلى تغيير النظام الاستعماري القائم وإقامة كيان عربي موحد أو مستقل عن الهيمنة الغربية. كانت هذه الأنظمة بمثابة أدوات وظيفية لتحقيق السيطرة الغربية المطلقة على المنطقة، خاصة مع اهمية النفط وموقع المنطقة العربية الجغرافي الاستراتيجيين. ولذلك، كان الدعم الغربي لهذه الأنظمة لا يشتمل على التوجيه والمشورة فحسب، بل التدخل العسكري المباشر احياناً لضمان بقائهم.
سايكس بيكو والأنظمة العميلة: حجر الأساس للاستعمار الجديد
تم تصميم نظام سايكس بيكو لضمان بقاء العالم العربي في حالة من الضعف الدائم والتجزئة المستمرة، حيث كان هذا الضعف ضرورياً لضمان استمرار السيطرة الغربية على ثروات المنطقة، خاصة النفط. كما أن زرع إسرائيل في قلب العالم العربي كعدو مشترك للأنظمة العربية، كان جزءًا من هذا المخطط لإبقاء المنطقة في حالة توتر دائم، مما يجعل التعاون مع الغرب خياراً ضرورياً لهذه الأنظمة لضمان استمرارها.
إيران وتركيا: دور الحلفاء غير المباشرين
لعبت هاتان الدولتان دوراً هاماً في تحقيق أهداف النظام الإمبريالي الغربي. كانت إيران، بقيادة الشاه، حليفاً استراتيجياً للغرب، حيث ساهمت في حماية المصالح النفطية الغربية ومنعت انتشار الشيوعية في المنطقة، بينما لعبت تركيا الأتاتوركية دور الحليف الاستراتيجي من خلال الابتعاد عن العالم العربي والإسلامي وتوجيه سياستها نحو الغرب ومصالحه، مما عزز من حالة الانقسام والضعف في المنطقة. تمحور دور هاتين الدولتين حول دعم الأنظمة العربية الهشة وحمايتها من ثورات شعوبها، وضمان استمرار الهيمنة الغربية على المنطقة وثرواتها، واستمرار حالة الانقسام والضعف في العالم العربي وحماية الكيان الصهيوني.
الأنظمة العربية: وظيفة في المؤامرة الكبرى
تاريخياً، كانت هناك عدة أنظمة عربية تآمرت بشكل مباشر أو غير مباشر على حركات التحرر العربي. السعودية، الإمارات، قطر، مصر في عهد الملكية وما بعد عبد الناصر، الأردن، والمغرب، كلها لعبت دوراً في احتواء أو إجهاض الثورات التحررية. هذا التآمر لم يكن مجرد نتيجة لخيارات داخلية خاطئة، بل كان جزءاً من نظام أوسع تم تصميمه من قبل القوى الإمبريالية لضمان بقاء العالم العربي في حالة من الهشاشة والتبعية.
إن تآمر الأنظمة العربية على حركات التحرر كان جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الإمبريالية الغربية، التي سعت منذ بداية القرن العشرين إلى تقسيم العالم العربي وإبقائه في حالة من الضعف والتبعية. من سايكس بيكو إلى يومنا هذا، استمرت الأنظمة العربية في لعب دور الأداة في يد القوى الغربية، مما أدى إلى إجهاض العديد من حركات التحرر وإبقاء العالم العربي في حالة من الانقسام والفوضى، والوضع في كل من السودان وليبيا يشهد على ذلك. وبينما تتبدل الأسماء والوجوه، يبقى المخطط واحدًا: السيطرة على المنطقة وضمان تبعيتها الكاملة.
نظام سايكس بيكو: أساس التفرقة والانقسام
اتفاقية سايكس بيكو لم تكن مجرد تقسيم جغرافي للعالم العربي، بل أسست نظاماً إقليمياً مبنياً على التجزئة والتفتيت، حيث تم خلق دول مصطنعة تعاني من انقسامات داخلية، وضعف سياسي، واعتماد مطلق على القوى الخارجية. هذا النظام خلق بيئة سياسية غير مستقرة، حيث أصبحت الدول العربية عاجزة عن تحقيق استقلالها الكامل أو بناء تحالفات قوية تعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية.
في سياق القضية الفلسطينية، ساهمت سايكس بيكو في إضعاف الموقف العربي المشترك تجاه فلسطين، حيث تفرقت الجهود بين الدول العربية التي كانت أكثر انشغالاً بالحفاظ على مصالحها القطرية الضيقة بدلاً من تحقيق وحدة فعلية قادرة على مواجهة المشروع الصهيوني.
طوفان الأقصى: الاختبار الحقيقي
الأقصى، بمكانته الدينية والرمزية، كان دائماً نقطة اختبار لوحدة الشعوب العربية والإسلامية وموقفها من القضايا المصيرية. ومع كل تصعيد إسرائيلي ضد المسجد الأقصى، سواء من خلال الاقتحامات المتكررة، أو محاولات تغيير الوضع القائم، أو الاعتداءات على المصلين، كانت ردود الفعل الرسمية العربية تأتي هزيلة وضعيفة، تعكس مدى تآكل الإرادة السياسية لدى هذه الأنظمة.
في “طوفان الأقصى”، وهي العملية العسكرية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، كان من المتوقع أن تظهر الأنظمة العربية موقفاً حازماً في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. إلا أن ما حدث كان العكس؛ إذ تباينت ردود الأفعال بين الشجب والإدانة اللفظية، والصمت الذليل، دون اتخاذ خطوات عملية لدعم المقاومة أو الضغط على المجتمع الدولي لوقف العدوان. هذا الموقف المشين كان نتيجة مباشرة لنظام سايكس بيكو الاستعماري، الذي أستعبد معظم العالم العربي وشتت جهوده.
خيانة الأنظمة العربية: استمرار التآمر
خيانة الأنظمة العربية تجلت بوضوح في العديد من المواقف خلال طوفان الأقصى. بعض الدول العربية التي بدأت بتطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني سعت إلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية معه، على حساب دعم الشعب الفلسطيني. هذه الدول لم تكتفِ بالصمت، بل بررت الاعتداءات الصهيونية، ودعمت الكيان ماديا، مما شكل طعنة في ظهر المقاومة والشعوب العربية التي كانت تترقب موقفاً داعماً بالحد الأدنى.
خلاصة: إرث سايكس بيكو والخيانة المستمرة
“طوفان الأقصى” لم يكن مجرد حدث عابر بالنسبة لنظام سايكس بيكو، بل كان تجلياً واضحاً لوظيفة هذا النظام في العالم العربي منذ صياغته حتى اليوم. إذ استمرت الأنظمة العربية، التي كانت وما زالت جزءاً من هذا النظام، في لعب دورها كأدوات للقوى الاستعمارية، خائنةً لآمال شعوبها، متحالفةً مع العدو الصهيوني الفاشي للقضاء على قوى المقاومة في فلسطين ولبنان وكافة مناطق العالم العربي. هذه الخيانة المستمرة للأمة العربية ومصالحها وآمالها في النهوض والتحرر والاستقلال والتقدم تؤكد أن الإرث الاستعماري الذي زرعه الغرب في منطقتنا لم يزل قائماً وفاعلاً، وأن التحدي الأكبر أمام الشعوب العربية هو في كسر هذه القيود التي فرضتها عليهم تلك الأنظمة، وتفكيك نظام سايكس بيكو، واستعادة وحدتهم الحقيقية في مواجهة التحديات المصيرية، وفي مقدمتها تحرير فلسطين التاريخية.
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!

محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …