معن بشور*
في 29 تشرين أول/أكتوبر 1956، بدأ كيان الإبادة الجماعية عدوانه على مصر وعلى قيادة الخالد الذكر جمال عبد الناصر، والذي كان قراراً بريطانياً وفرنسياً، أرادت الإمبراطورية البريطانية أولاً من خلاله أن تنتقم من القرار الوطني الهام الذي اتخذته ثورة 23 يوليو بتأميم قناة السويس، وثانياً رغبة باريس بالانتقام من دعم مصر لثورة الجزائر التحريرية التي انطلقت في الفاتح من نوفمبر عام 1954، وتأكيداً لدور باريس ورئيس حكومة فرنسا غي موليه آنذاك، تم اختطاف طائرة تنقل القادة الجزائريين (بن بلة ورفاقه) في يوم العدوان ذاته.
واليوم وبعد سنة كاملة و 12 يوماً، من بدء عملية “طوفان الأقصى” في غزّة، نراها تتحول إلى ملحمة كبرى شارك فيها إلى جانب الفلسطينيين، الاف المجاهدين الأبطال من اللبنانيين وأشقائهم في اليمن والعراق وسورية وإيران.
ماذا يجمع العدوانين؟
أولاً: إن العدوان الثلاثي على مصر والعدوان الصهيوني – الأمريكي – البريطاني على غزّة عدوانان اشتركتا فيهما علناً بريطانيا مع الكيان الصهيوني، وسعت واشنطن إلى استغلاله لتحقيق هدفين، أولهما ضرب حركة التحرر العربية بقيادة ناصر، وثانيهما استكمال نفوذها في العالم على حساب حليفيها الأطلسيين وبريطانيا وفرنسا، وهو ما تسعى اليوم واشنطن ولندن وتل أبيب لتحقيقه من خلال ضرب المقاومة الإسلامية في بلادنا.
ثانياً: إن العدوانين رغم أنهما يشتركان في قتل العديدين من أبناء مصر وفلسطين ولبنان وغيرهم، لم يتمكنا من تحقيق أهدافهما، سواء بإضعاف موقع مصر والحركة القومية العربية يومها، أو بإجبار المقاومة الفلسطينية واللبنانية على الرضوخ لمطالب العدوان.
ثالثاً: ومثلما شاركت جماهير الأمّة في الانتصار لمصر، وشارك الشعب السوري بتفجير أنابيب نفط شركة نفط العراق (I.P.C)،) وتفجير المدمّرة “جان دارك” مقابل ساحل بور سعيد على يد الشهيد السوري ابن اللاذقية جول جمال، وعمّت التظاهرات الشعبية معظم عواصم الأمّة من المحيط إلى الخليج، وكان ذلك تعبيراً عن قوة الرابطة القومية في الأمّة، فلقد وجدنا أيضاً المقاومة الإسلامية في لبنان تنخرط في الثامن من أكتوبر في قلب المواجهة مع المقاومة الفلسطينية، وتقدّم الاف الشهداء والجرحى انتصاراً لغزّة، كما انخرطت المقاومة اليمنية الباسلة في عمليات نوعية في باب المندب والبحر الأحمر بات لها نتائج استراتيجية على المستوى العالمي، بالإضافة إلى الدور المتصاعد للمقاومة العراقية التي أكّدت لأعداء الأمّة، أن الاحتلال الأمريكي للعراق لم، ولن، يقتلع شعب العراق من هويته العربية والإسلامية وانتصاره لحقوق الأمّة، بالإضافة إلى دور سورية القديم والجديد في دعم المقاومة، والذي يكشفه اليوم حجم وطبيعة الاعتداءات المتواصلة على سورية من ساحلها إلى داخلها، وهي تكشف الدور الأمريكي في هذا العدوان، كما رأينا في معارك الأمس في التنف وحقل العمر.
رابعاً: في العدوانين تحرك أحرار العالم في كل القارات انتصاراً لحقنا وتنديداً بالإعتداءات على بلادنا، حتى أن كثيرين رأوا في ملحمة السويس تداعيات استراتيجية عالمية من أبرزها انطلاق حركة عدم الانحياز التي لعبت دوراً هاماً في تشكيل نظام توازن دولي تمّ إسقاطه بعد احتلال العراق عام 2003.
كما يجمع المراقبون اليوم، أن “ملحمة طوفان الأقصى” ستترك أيضاً تداعيات استراتيجية عالمية، لعل أبرزها تشكيل نظام عالمي جديد قائم على التوازن والعدالة، وهذا ما يشي به الإعلان الصادر عن قمة البريكس التي باتت اليوم إطاراً لتجمع دول عديدة تريد التفلت من الرضوخ الكامل لإملاءات واشنطن.
خامساً: إن دور مجلس الأمن في وقف العدوانين كان متشابهاً وعاجزاً عن اتخاذ قرار بوقف العدوان على مصر عام 1961، بسبب فيتو عضوين دائمي العضوية فيه، وهما بريطانيا وفرنسا، كما عجز المجلس نفسه أن يصدر قراراً ملزماُ للكيان الصهيوني بوقف العدوان بسبب الفيتو الأمريكي.
ومثلما نجح العالم الرافض للعدوان على مصر في اللجوء إلى بند “الاتحاد من أجل السلام” لكي يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار يوقف العدوان على مصر، فأن الأغلبية اليوم في الأمم المتحدة مدعوة إلى اتخاذ قرار ملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف العدوان، حسب بند “الاتحاد من أجل السلام” متجاوزة الفيتو الأمريكي.
سادساً: تشترك مقاومة الأمة للعدوانين أيضاً أنها لم تتساهل في التعامل مع شروط الأعداء، فلا عبد الناصر قبل أن تبقى القوات الصهيونية يوماً واحداً في أرض سيناء بأكملها، ولا المقاومة الفلسطينية اليوم في غزّة ومعها محور المقاومة، ترضى بأي اتفاق لوقف العدوان لا يشمل الانسحاب الكامل من غزّة، مع الشروط الأخرى التي ليست سوى قرارات صادرة عن مجلس الأمن لم تنفذها تل أبيب بدعم من واشنطن.
سابعاً: لقد كان الموقف الرسمي العربي – الإسلامي عموماً عام 1956، ما عدا بعض الاستثناءات، موقفاً مشيناً كما هو اليوم، لا بل جرى انقسام في قمة بيروت عام 1956، رفضت حكومات عدّة قطع العلاقات مع دول العدوان، بل جرى انقسام داخل لبنان نفسه بين رئيس الجمهورية آنذاك الراحل كميل شمعون الرافض لقطع العلاقات، ورئيس الوزراء آنذاك الرئيس الراحل الدكتور عبد الله اليافي ونائبه الراحل صائب سلام اللذين استقالا من الحكومة، وهو انقسام كانت له نتائجه المؤلمة على لبنان نفسه.
واليوم نجد أنفسنا أمام الموقف ذاته، حيث يصمت معظم الحكام العرب على هذه الجرائم غير المسبوقة التي يرتكبها العدو الصهيوني وشركائه وجرائمهم في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسورية وإيران، وحيث لم تجرأ حكومة واحدة من الحكومات التي عقدت اتفاقات تطبيع مع العدو، أن تسحب السفراء مع العدو وتقطع العلاقات وتسقط اتفاقيات الذل معه، وخصوصاً أنه مضى عام ونيف على هذا العدوان وما رافقه من وحشية غير مسبوقة.
وكما كان مصير حكومة بغداد يومها، ومن وقف معها، وكقائدة لمحور التعاون مع دول العدوان الثلاثي على مصر، مصيراً معروفاً مع سقوط حلف بغداد وتهاوى الحكام الضالعون فيه، فأن كل المؤشرات تشير إلى أن أحداً من حكام الصمت والتواطؤ مع العدو لن يكون بمنأى عن غضبة الشعب العربي ولو بعد حين.
إن استعراض أوجه الشبه بين عدوان ثلاثي على مصر قبل 54 عاماً، وعدوان ثلاثي على غزّة وعموم فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران اليوم، ضروري في هذه المرحلة لكي ندرك أمرين معاً.
أولهما: أن العدوان الاستعماري – الصهيوني على المنطقة لم يتوقف على مدى العقود، بل القرون.
ثانيهما: إن مقاومة الأمّة لهذا العدوان، وأن تفاوتت عناوينها وسبل فعلها بين مرحلة وأخرى، ومن قطر وآخر، هي مقاومة منتصرة بإذن الله، وانتصارها سيكون بحجم التضحيات التي قدمتها في هذه الملحمة.
*كاتب لبناني