خالــد شحـــام*
لقد دخل الزمان منطقة التيه والنسيان في العدوان على غزة ، إنه اليوم الثامن والعشرون بعد السنة من عداد الأيام المنكوبة ببني اسرائيل ، ولكن من يحفل ومن يسأل وقد فقد التاريخ أفلاكه وضاع العرب مرة أخرى في جزر بحر الظلمات ، وفي الوقت الذي تخوض فيه قوى المقاومة في غزة ولبنان أشجع المعارك الأسطورية في مواجهة مباشرة مع آلة الموت الأمريكية -الاسرائيلية تشتد المعركة السياسية لفرض الشروط الإذلالية على لبنــان وغزة وسط حالة عجائبية من تآمر الأنظمة العربية والعالمية ، وما يبدو أن الخسائر العسكرية التي يتلقاها العدو في الجبهتين تسعى الحيل الخارجية الأمريكية لتأمينها عبر المكر واللعب السياسي .
ربما ينسى كثيرون في ظل الاعتماد المطلق على ما تبصره الحواس البسيطة أن المعركة العسكرية والسياسية التابعة لها التي يقودها جيش المخربين في غزة ولبنان وعمليات القتل بالجملة والتدمير بالجملة لا تمثل سوى 20% فقط من المعركة الحقيقية ، هنالك معركة أشد وقعا تخوضها غزة والمقاومة على محور آخر أعمق وأكبر بكثير وغير مدرك بالقدر الكافي ، اسمها معركة الدعاية الإعلامية والتي تتربع في قلبها حكاية الصدام الحضاري الأزلية ، ومعركة الدعاية الإعلامية يا سادتي تمتد راياتها الموشومة بالنجمة السدساية اللوسيفيرية على سعة العالم بكافة الألوان والموضات ، وتجدونها مرفوعة في جامعات وفضائيات وشركات أغذية ونفط ودواء وطاقة وأشباه موصلات ، شركات برمجة وذكاء صناعي ، ورجال دين و مفكرين ومؤثرين وناطقين رسميين ، إنها الجيوش الخفية التي تمتد على مساحة 80% من المعركة لتسند الجبهة العسكرية للكيان ، وتمنح دباباته وطائراته الشرعية الكافية لإباحة الدم العربي في كل مكان وتنتهي بجمع القطاف السياسي والاحتيال على الضحايا .
يمكنكم مع قليل من الانتباه تتبع تصاعد المعركة الإعلامية بمعية الضربات العسكرية التي يمارسها العدو ضمن تناغم محكم ، قبل ما يقارب الأسبوعين أتحفتنا مجموعة قنوات (تي إن تي ) بتقرير إخباري ضمن قالب رديء التمثيل يحاول بشكل سطحي محاكاة أسلوب محققي قناة الجزيرة بحكمه الأقرب لوعي الجماهير وذلك لكي يقدم الطعنة الصحيحة في القيادات الفلسطينية التي قدمت حياتها ثمنا لمنهجها في المقاومة وغرست منحى البطولة والنزاهة والنظافة الأخلاقية المثالية ، وعقب موجات الاعتراض والسخط التي تعرضت لها القنــاة المذكورة اضطرت لسحب التقرير وحذف الارتباطات الاستخبارية المتعلقة به .
ad
وضمن نفس السياق كنت أتابع قبل عدة أيام إعلاميا نكرة من إحدى دول الطوق وهو يتكلم بنبرة الوطني البسكويتي متنقلا من السخرية إلى الحرص الوطني إلى الطعن والتشكيك في جدوى المقاومة وكيف أنها دمرت غزة وجلبت الويل لأهلها ، وكيف أن هذه المقاومة قد تذهب ببلده الى الهاوية والدمار، وغير بعيد عن شجرة الزقوم هذه يتم تداول مقطع مصور لأحد رجال الأمن المتنكرين في زي إمام وشيخ خليجي وهو يجرم بالمقاومة الفلسطينية ويضع في عيون حماس تراب المؤامرة ويصنفها مع المرتدين والكفرة ويحلل ذبحهم ، وفي محاولة من زاوية الشرف يقفز متصهين اخر ليقذف في اعراض نساء غزة وكأن ما فيهن من معاناة والم لا يكفي ، وربما إذا أردت أن استعرض لكم المزيد من فروع هذه الشجرة المعلونة فلن تكفي عشرات الصفحات لتقديم واستعراض هذه الهجمة التي تزداد شراسة مع زيارات الصهيوني هوكشتاين والثعبان بلينكن إلى المنطقة والسخونة السياسية التي تتصاعد مع جذور شجرة الزقوم الممثلة بالانتخابات الأمريكية والتلويح بالاعتداء على ايران .
قبل بضعة سنوات ، كان مصطلح الذباب الإلكتروني ولا يزال هو المصطلح المستخدم في الأوساط الثقافية لتوصيف الأصوات الدخيلة بمهارة وسط الحوارات الإلكترونية والمحطات الفكرية لتحييد أو طعن أو تشويه بعض الحقائق والثوابت ضمن مخططات استخبارية مباشرة تتقمص دور الجمهور المناقض أو المرتد أو المضاد للتوجهات الحقيقية للشعوب ، وكانت الاستخبارات الصهيوينة هي الرائدة هنا .
هذه الظاهرة شغلت واجهة المواقع الاجتماعية مع الحقبة الأولى لصعود نجوم مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة موقع فيسبوك المتصهين حيث أصبح متاحا للجمهورالمكبوت المشاركة برأيه ودخول ساحة الرأي غير الخاضع لرقابة الأنظمة القمعية التقليدية ، ثم انتقلت لتعم كل موضع يمكن فيه وضع الرأي أو كتابة التعليق ، اضطرت الأنظمة البالية سياسيا والرجعية قوميا وإسلاميا إلى تطوير فكرة لجان الكترونية تمارس اللعب المعاكس للأصوات المتحررة بهدف حماية تلك الأنظمة البالية وصناعة ما يبدو انه قاعدة شعبية حاضنة ومؤيدة لها .
لجان الذباب الالكتروني ما بعد العدوان على غزة لم تعد مثلما كانت قبل غزة ، لقد حدث تحور خطير وجذري ، لقد تمت إذابة حدود عمل هذا المصطلح وتم توسيع نطاقه معنويا وماديا ليتحول من لجان إلكترونية تقليدية تجلس خلف الشاشات وتمارس عملها الاندساسي بصمت وشمولية إلى جنود مجندة وجيوش بعتاد متطور من المثقفين والمسؤولين ورجال الدين وإعلاميين وصحافيين ورجال أعمال وأئمة مساجد وفنانين وممثلين وأحيانا نواب ودكاترة جامعات ، كل هؤلاء تحولوا اليوم إلى ظاهرة جديدة في الحيز العربي تحديدا اسمها المقاومة ضد المقاومة بالصورة غير الرسمية ليكونوا بمثابة الصوت الشعبي الناطق بإسم الأنظمة المتواطئة في الجريمة ضد غزة ولبنان ، لقد اصبحوا اليوم (المقاومة الاسرائيلية ) ضد المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية ، مقاومة اسرائلية نضجت من مرحلة اليرقة الى الشكل الكامل لكائنات اكبر واخطر من الذباب البسيط ، لم يعد هنالك من ذباب بل خنازير وافاعي وحشرات ذوات اربع واربعين وقوارض نشأت وترعرعت في انظمة الصرف الصحي الاسرائيلي لاطلاقها في التوقيت المناسب بتناغم مع وقع الضربات العسكرية ، ولهذا السبب وجب علينا اليوم تطوير المصطلح الملائم لهذه النقلة .
المقاومة الاسرائيلية أصبحت النائب الحاضر عن الغائب الرسمي المتخفي وراء السلام والحمام والمناشدات والقمم والمؤتمرات المزيفة ، هذه المقاومة ينتمي اليها كل ما يخطر في بالكم من إعلام الردح وإعلام الفسوق الديني وإعلام التقسيم الطائفي وحتى رؤساء دول ومسؤولين على درجات عالية وأهدافهم لا تتعدى الآتي :
منح الشرعية للعدو الصهيوني -الأمريكي وحلفه وتبرير أعمال القتل والعدوان وزرع القبول بها في ذهن المواطن العربي والعالمي خدمة من هذه الأنظمة للمشروع الصهيوني .
تدمير الروح المعنوية للشعوب المساندة والمؤيدة لمشروع التحرر العربي الذي تطلع به المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة ، والدفع بهذه الشعوب إلى اليأس والقنوط من إمكانية عمل أي تغيير .
إحداث الفصل بين جبهات المعركة وعزل الثقل الرئيسي للمعركة الممثل بايران عن الشعوب العربية وإحداث الانفكاك بين أطراف هذا الحلف .
حماية أنظمة التطبيع والأنظمة العاملة مع المشروع الصهيوني ،حيث يدرك هؤلاء بان سقوط نتانياهو وما يمثله سيعني سقوط أنظمة عربية بشكل مؤكد أو ترنح أوراقها أو التهديد باستبدالها .
هنالك شيء ما فات المقاومة الاسرائيلية بكل مشتقاتها وأدواتها ورجالاتها وفنانينها وممثليها وعاهراتها ، شيء يتعدى دراساتهم السيكولوجية التقليدية التي تؤمن بالدراسات الإعلامية والتوصيات الاستشارية الباهظة الكلفة والمدخلات السمعية البصرية للاقتراب من وعي المشاهد ودس السم في ثنايا وتلافيف دماغه ، الشيء الذي فاتهم هو أن هنالك متغير في داخل النفس البشرية لا يمكن لكل حيل هاروت وماروت الإعلامية المنكهة بالدين أو الوطنية الزائفة أن تطأه مهما بلغت من القوة ومهمــا أنفقت من ديكورات وستوديوهات وجلبت من خبراء وثعابين خبراء في الدجل الرقمي ، لسوء حظ المقاومة الاسرائيلية أنها جاءت لتلعب لعبة سخيفة وسطحية للغاية في ذروة تولد هذا المتغير الذي نتكلم عنه ، هذا المتغير يا سادة اسمه صحوة الروح ، وصحوة الروح التي نقصدها هي باقة من التوقدات الروحية والنفسية والحسية التي دفعت بها الجريمة الصهيونية في غزة وشكلت صدمة لوعي الجمهور، وأخذته الى منطقة نظيفة من الفهم والرؤية غير المضللة ، خاصة مع الصمود الأسطوري والضربات الموجعة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمينة ، اوقات قليلة في التاريخ تلك هي التي تتولد فيها صحوة الروح ، ومن سوء حظهم مرة اخرى بأن طوفان الأقصى تسبب في ولادة هذا الحدث النجمي النادر ، ليس من دليل يثبت صحة هذا القول إلا سـعة الفشل الذي حظيت به كل محالاوت المقاومة الاسرائيلية في تضليل الشعوب أو الانقاص من قيمة المقاومة والحط من قياداتها ، بل على العكس لقد تسببت أعمال هؤلاء الصهاينة في انتشار الاحتضان والتأييد للمقاومة بكل صيغها وأفعالها ومكتسباتها .
إن الاستحواذ على وعي الشعوب العربية والإسلامية لا يتطلب فقط الاستحواذ على القيادة الدينية لتحويل شعائرها وخطابها إلى شكليات مفرغة من المضمون الجوهري والجهادي والإنطلاقي لأمة المسلمين والعرب ، بل يتوجب أيضا الاستحواذ على قيادة ممالك أخرى لها سلطتها الهائلة في إكمال مهمة التفريغ الديني ، لدينا امبراطورية خارقة في تضليل وعي الشعوب العربية اسمها امبراطورية الغنــاء والموسيقى العربية وهذه تتكفل بنقل الوجدان من منطقة الشهامة والكرامة إلى منطقة الاستحمام والاستجمام والغمامة ، ولدينا امبراطورية التمثيل والممثلين والأفلام والدراما وهذه كفيلة بتزييف كل التاريخ وتحويل الوعي إلى قضامة ، لدينا كذلك امبراطورية الصحافة والإعلام والجذامة ، حيث يتوجه خيرة المثقفين للرفد ومتابعة الواقع وسخامه ، وهذه ضرورية لإقصاء المفكرين والمؤثرين الحقيقيين وإحلال الحثالة الفكرية والزبالة الاعلامية مكانهم ليكونوا للناس قدوة في الوساخة الفكرية والردحية ، لهذه الاسباب تعمل المقاومة الاسرائيلية على كل هذه المحاور باجتهاد وبلا كلل ولا ملل .
ما الذي يحدث حين يموت نجم مستعر في قلب الفضاء الكوني ؟ تقول الفيزياء النجمية بأن ثقبا أسود يتولد من هذ النجم ، حيث يختفي هنا شيء لامع ومضيء وقوي مخلفا تموجات في نسيج الزمان والمكان تاركــا وراءه نجمــأ خاصا أشد رعبا وسطوة وعنفوانا اسمه الثقب الأســود الذي يبتلع كل شيء ثأرا وثورة ، هذا ما تفعله يد الشر الصهيونية الامريكية في غزة ولبنان وكل الرقعة العربية البائسة حيث تقتل شموسا لتتولد مكانها غدا ثقوب سوداء ستبتلع كل حياتهم وكل مستقبلهم ، حلف الشيطان يسجل كل يوم المزيد من الخسائر على كل الصعد العسكرية والسياسية والأخلاقية البقائية ، ولن تنفعه كل لجان المقاومة الاسرائيلية ولا اللجان الالكترونية ولا كل عمليات التعمية والتضليل .
إن فناءكم مُعَرفٌ بشهدائنا ودماء أطفالنا ونسائنا وتدمير حياتنا ، إن هلاككم معرفٌ ومكتوب بهذه الدماء التي سالت بلا توقف وبهذه الأرواح البريئة التي تحتشد في السماء ، هذا هو ثمن الحرية التي ستنالها الشعوب وتقتص منكم مهما فعلتم .
*كاتب فلسطيني