علي لهروشي
إن الأحداث التي عرفتها مدينة أمستردام الهولندية يوم السابع من شهر نوفمبر الحالي يُجسد بعض ما جاء في كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، حيث أن اسرائيل تنتعش، وتعتمد، بل وقائمة أساسا على الإفتراءات، والأكاذيب، والإغراءات، و التمويه، وتزيف الحقائق، وتسريب معلومات خاطئة، والقيام بعمليات إرهابية في السر والعلن بمختلف الأشكال هنا وهناك، ومع كل ذلك فهي تلعب دائما دور الضحية، بغرض الهيمنة، والسيطرة على الحملات الإعلامية، وتسخيرها لصالحها، واستغلالها للأحدات، وتفريغ الوقائع من حقائقها، ومن خلال ذلك تثير، وتحصل على عطف و مساندة، وتضامن الدول، والمؤسسات الدولية، والحكومية، التي تعبر بسذاجة، وتسرع لا مثيل له بوعي أو بغير وعي عن مواقف تصب في صالح الكيان الصهيوني، الإرهابي، المتغطرس، بحجة التصدي لكل أشكال معادة السامية، والعمل على حماية اليهود. و ما حصل بمدينة أمستردام يطرح الأسئة التالية :
لماذا تم إختيار اليوم السابع بالضبط لإجراء مقابلة في كرة القدم بين فريق “أجاكس أمستردام “وفريق” مكابي تل أبيب”؟
إذا كان هذا الدور الرياضي يخص الفرق الأوروبية، فمن أقحم الكيان الصهيوني بهذا الدوري، بما أن إسرائيل بعيدة كل البعد عن إنتمائها جغرافيا للدول ألوروبية؟
ما هو الهدف، والمُبتغى، و الغرض الحقيقي من وراء قدوم هذا السرب من الإسرائليين المعتوهين، و الحمقى، و المرضى كجمهور رياضي إلى أمستردام؟
تُعرف مدينة أمستردام على أنها مدينة يسارية بإمتياز، حيث تحصل فيها أحزاب اليسار على الأغلبية، أي ما يكفي من المقاعد لإختيار من يتولى منصب عُمدة المدينة، وغالبا ما يكون العُمدة من حزب العُمال، بغض النظر عن إنتمائه العقائدي أو الإيديولوجي، أو السياسي، حيث أن ذلك لا يمنعه أن يكون يهوديا أو غير ذلك، كما هو حال العُمُدات، أو العُمَد السابقين من أمثال المدعو ” فان تاين ” الذي تولى منصب عمدة المدينة من 1983 إلى 1994 ثم العُمدة المسمى “شخيلط وباتين” من 01 يونيو 1994 إلى يوم 01 يناير 2001 الذي خلفه المسمى ” يوب كوهن ” من يوم 15 يناير 2001 إلى غاية 2010، ليحل محله المدعو ” إبرهارد فان ديرلان ” من يوم 23 يونيو 2010 حتى وفاته يوم 5 أكتوبر 2017 ثم المدعو ” يوزياس فان أرتسن ” من 2017 إلى 2018 من الحزب اللبيرالي المحسوب على اليمين، لتحل محله عمدة المدينة السيدة ” فيمك هيلسما ” من سنة 2018 إلى حدود الأن، وهي من حزب الخُضر اليساري، كما تضم المدينة عددا كبيرا من المغاربة، و الأتراك و من الطلبة اليساريين الذين يساندون القضايا الإنسانية، و على رأسها القضية الفلسطينية، وقد يُطلق على مدينة أمستردام اسم ” جمهورية أمستردام ” نظرا لقراراتها، ومواقفها، وتوجهاتها اتجاه قضايا مُختلفة التي تخالف أحيانا القرارات الصادرة عن المركز بمدينة ” لاهاي ” حيت تتواجد مقرات كل من الغرفة الأولى، و الغرفة الثانية، ومقر البرلمان، و مقرات كل الوزارات، أي مصادر القرارات السياسية، و الإقتصادية، وغيرها.
هذا ما جعل مدينة أمستردام مدينة التعايش السلمي، وضمان حق مختلف الجنسيات للتعبير عن أرائها و مواقفها أتجاه مُختلف القضايا، إذ تُوجد بأمستردام حوالي 180 جنسية من جنسيات مُختلفة، لها جمعياتها، وتمثيلياتها، و مدارسها، ومساجدها، ومعابدها، وتُزاول أنشطتها، و مُعتقداتها بكل حُرية، و هذا هو العامل الذي جعل السلطات بالمدينة تُكفل حق الإحتجاج، وتنظيم التظاهرات، و التعبير عن الرأي في إطار إحترام القانون، وممتلكات الغير. في هذا الصدد احتلت القضية الفلسطينة المرتبة الأولى تقريبا في الاحتجاجات التي تعرفها المدينة، حيث زُينت بعض النوافذ و شرفات بعض المنازل بالأعلام الفليسطينية، لكونها قضية الساعة التي يتعرض شعبها للإبادة الجماعية من قبل الكيان الصهيوني الإسرائلي الغاشم، أمام صمت رؤساء، و ملوك، و حكومات العالم، و هذا التضامن الشعبي الأمستردامي، والهولندي، والعالمي مع القضية الفلسطينية، الذي بدأ يُعري طُغيان، و جبروت، وعنجهية، و الوجه الحقيقي الشرير للكيان الصهيوني، هو العامل الأساسي الذي أغضب إسرائيل، حيث خططت مُخابراتها للعمل من أجل الحد، وإيقاف، وعرقلة هذا التضامن الشعبي بمختلف الدول الأوروبية، وذلك بتنفيد مُخطط إثارة الشغب و ممارسة كل أشكال الاستفزاز، و الاعتداء، و الهجوم، و انتظار ردة الفعل من قبل المعتدى عليه، حينها يتم فبركة أشرطة فيديويهات، و إلتقاط العديد من الصور و ترويجها على شبكات التوصل الإجتماعي لأجل لعب دور الضحية، و الظهور في مظهر المظلوم المُعتدى عليه.
وهذا بالضبط ما حدث بمدينة أمستردام حيث قدمت إليها مجموعة من اليهود الإسرائيليين لمتابعة مقابلة في كرة القدم التي حدد تاريخ إجرائها في يوم الخميس 7 نونبر 2024 التي جمعت بين فريق ” أجاكس أمستردام ” و فريق” مكابي تل أبيب الإسرائيلي”، حيث بدأ المشجعون الاسرائيليون في الإعتداء بالضرب، و السب، و الشتم، و الإهانة على سائقي سيارات الأجرة، من ذوي الملامح المغاربية، و التركية، فلم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه لإثارة الشغب بالمدينة، وصولا إلى الإعتداء على أفراد الشرطة الهولنديين، و تسلقهم كالقردة بنوافذ المنازل، و الشقق، و الشرفات لإقتلاع الأعلام الفلسطينية، وهذا ما تم تداوله أيضا عبر وسائل التواصل الإجتماعي، و هو ما أكده كل من عمدة المدينة السيدة ” فيمك هالسما ” و الناطق و ممثل الشرطة الهولندية بأمستردام .
بعد تداول تلك الأشرطة كالنار في الهشيم و مشاهدتها من قبل ساكنة المدينة، شعر شباب المدينة بضرورة التدخل العاجل، و الفوري لرد الإعتبار للمدينة، و لساكنتها، دون أدنى تفكير في كون تلك الاستفزازات، و الأعمال التخريبية، و الإرهابية الصادرة عن المشجعين الاسرائيليين قد تكون مجرد فخ، و خُدعة صهيونية للمزيد من حصد تضامن الحكومات على الصعيد الدولي .
و على إثر تجمع الشباب الهولندي من أبناء أمستردام من مختلف الإثنيات، نشبت تلك الأحداث التي عرفها هذا الأسبوع المتعلقة بالدفاع عن حرية المواطنين بالمدينة ضد الهجمة الصهيونية الإسرائيلية، التي اعتقدت أنها ستُدنس المدينة في تطبيقها لقانون الغاب، حيث تطاول اليهود الصهاينة الإسرائيليون على حُرمة المنازل بإقتلاعهم للأعلام الفلسطينية التي تُزين بها شرفات المنازل، ثم الإعتداء على سائقي سيارة الأجرة معتقدين أنهم فوق القانون، قبل أن يتصدى لهم هذا شباب مستعملا الدرجات النارية، والسيارات لمطاردة الصهاينة الاسرائيليين بكل شارع، و ركن بوسط المدينة، و تنظيفها منهم، و من أوساخهم القذرة النتنة، و رد الإعتبار ليس للمدينة فقط، بل العمل على حماية و إنقاذ حتى الشرطة الهولندية من الإهانة، و الإعتداءات التي تعرضوا لها من قبل حُفنة من الصهاينة، التي تتكون من حوالي 150 إلى 200 نفر.
فالأمر الظاهر من وراء أحداث أمستردام هو ردع اليهود الإسرائليين من المعتدين على المدينة، و إيقافهم عند حدهم من قبل شباب المدينة، لكن الأمر الخفي وراء ذلك هو رغبة و مخطط الصهاينة لمُعاقبة الدولة الهولندية عامة، مدينة أمستردام خاصة عبر الضغط الممنهج لطرد عُمدة المدينة ” فيمك هالسما ” التي تُصرح رغم الانتقادات اللاذعة التي تتعرض لها من قبل اللوبي الصهيوني بتنظيم الوقفات الاحتجاجية تقريبا كل أسبوع، و بالتالي الوصول إلى لجم، و إيقاف الزحف، و الزخم الشعبي المتضامن مع القضية الفلسطينية، الذي وصل حد تعليق بعض الجامعات الهولندية لتعاملاتها، و تبادل خبراتها، و تجاربها، و بعثاتها الطلابية مع الجامعات الإسرائيلية، كما أن القضاء الهولندي منع الحكومة الهولندية من تزويد إسرائيل بكل الوسائل العسكرية التي قد تكون سببا في قتل الأبرياء، و تدمير ممتلكانهم، و من بينها كل ما تحتاجه الطائرات الحربية الإسرائيلية من قطاع غيار و ما إلى ذلك.
في واقع الأمر فإن عالم كرة القدم يعرف هذا النوع من الشجار، و الخصام، و السب، و القذف، والهجوم، و المواجهة بين المشجعين لكلا الفريقان اللذان سيتقابلان، و هذا لا يحصل فقط بين مُشجعي فريق من دولة ضد مُشجعي الخصم من دولة أخرى، بل يقع داخل دولة واحدة بين مُشجعي فريق من مدينة ضد مدينة أخرى، أو حتى مُشجعي فريق حي سكني، ضد حي سكني أخر، حيث أن المشجعين يعبرون عن غضبهم، و رفضهم للهزيمة بمشاعر، و أحاسيس، وميول عنيفة قد لا يتحكمون فيها لحظة الغضب، و هم يشجعون فريقهم المفضل، فكل تلك التصرفات المشينة التي تصدر عنهم تعد في واقع الأمر ممارسات، وتصرفات سلبية، وتنم عن جهلهم، و عدم قابيتهم لتقبل الهزيمة، لكن الأمر أصبح معتادا، لا و لم يسبق له أن تسبب في إحداث أزمة سياسية، أو دبلوماسية، أو أن يمس بالعلاقات بين الدول، كما لا يستدعي تدخل دولة لدى الدولة الأخرى لمناقشة سلبيات هذه الظاهرة، بل يتم الإستعداد لمواجهات ذلك بأقل الخسائر من قبل شرطة كل دولة مُستضيفة لتلك المقابلة .
لكن لما تعلق الأمر بالكيان الصهيوني الإسرائيلي فقد تم تحريك، وتسخير، وتجنيد كل القنوات الإعلامية، و السياسية و الدبلوماسية، حيث وجه ما يسمى بمجلس الأمن القومي الإسرائيلي رسالة ليطمئن الإسرائيليين في أمستردام بأن موجة العنف قد انتهت، و لا يوجد حظر على تحركاتهم داخل المدينة، وضرورة اتباع إجراءات الحيطة،، كما أوصى بتجنب إبراز الرموز الإسرائيلية، والحفاظ على اليقظة بسبب الحساسية الأمنية في أمستردام، كما أدان وزير الخارجية للكيان الصهيوني الإسرائيلي، ” جدعون ساعر “، ونظيره الهولندي، ” كيسبر فالدكامب “، في تصريحات مشتركة للصحافة عقب اجتماعهما، ما اعتبره الوزيرين “اعتداءات على الإسرائليين” متجاهلين بذلك من هو السباق لإثارة الشغب .
فقد توجه ” ساعر” على التو إلى هولندا في زيارة جاءت عقب ما يسمونه بالهجوم على المشجعين الإسرائيليين في أمستردام، وأصدر وزير الكيان الصهيوني ونظيره الهولندي تصريحات مشتركة، حيث عبّر الوزير الصهيوني قائلاً: “معاداة السامية الجديدة، التي تتزايد في أوروبا، تركز على نفي حق إسرائيل في الوجود وحقها في الدفاع عن نفسها. رأينا قبل يومين أنهم يستهدفون كل إسرائيلي ويهودي كهدف للعنف الهمجي. من المهم أن تستيقظ أوروبا وتدرك هذا التحدي. نحن نعلم أن هذه ليست قيم هولندا، لكن في شوارع أمستردام كانت هذه الظاهرة بارزة. من المهم أن يكون موقف السلطات الهولندية واضحًا، بأن هذا أمر غير مقبول، ويستوجب عقوبة شديدة ” من جانبه، عبّر وزير الخارجية الهولندي قائلاً: ” أعتذر على ما وقع و نحن نشعر بالحزن الشديد لحدوث ذلك في مدينة سبينوزا و ” آنا فرانك ” . كونوا واثقين من أن المجرمين سيُحاسبون. ستُجرى تحقيقات شاملة في هولندا للنظر فيما إذا كانت السلطات الهولندية قد تصرفت بالشكل المناسب. سنقوم بتقييم الوضع وما حدث”
في هذا تم اعتقال 63 مواطنا من أبناء أمستردام من الحاملين للجنسية الهولندية، لكن القضاء الهولندي اطلق سراح 59 منهم، و اكتفى بمواصلة إعتقال 4 منهم فقط من بينهم 2 قاصرين أي أن القانون الهولندي يمنع استمرار اعتقالهما لكونهما قاصرين، كما أن الحكم المنتظر هو تسديد غرامة مالية لا تتجاوز قيمتها 500 أورو أو الحكم على المعتقلين بالقيام بالعمل المجاني لمدة 40 ساعة، بالطبع إذا كانت هناك تبريرات، ودلائل قانونية تبرر إصدار حكم من الأحكام في القضية في حق الشخصين البالغين المتبقيين رهن الإعتقال الإحتياطي . ولهذا يصفع القضاء الهولندي الكيان الصهيوني الإسرائيلي الذي حاول ممارسة ضغطه على الدول سياسيا، و إعلاميا، و ديبلوماسيا، وقانونيا للمزيد من تحقيق انتصارات وهمية على أن الصهاينة اليهود معصومين من المعاقبة.
ناهيك عن القيام بإلغاء وقفة منظمة من قبل اليهود بأمستردام التي كانت مُبرمجة من قبل لتخليد ذكرى تعرض أجدادهم للقتل من قبل النازية سنة 1938، بسبب إنعدام الأمن لليهود حسب ما وصفه الإعلام الهولندي، فيما لم يتم السماح يوم السبت 09 نونبر الموالي لتلك الأحداث ، وكذا يوم الأحد 10 نونبر بتنظيم وقفة احتجاجية تضامنا مع الشعب الفلسطيني بقلب المدينة كالعادة، التي لم يندمل جرحها بعد مما جلفته الأيادي الشريرة للصهاينة الإسرائيليين، لما عاثوا بها من خراب ودمار، قبل ردعهم، و رد الصاع صاعين من قبل شباب المدينة . فاليوم لهم، وغذا عليهم، و الوقائع الحالية التي نعيشها تجعلني أتأكد يوما بعد يوم أن القائد و الزعيم ” أدولف هتلير ” لم يرتكب أي جرم في حق اليهود، فإذا كنت أشاهد تزيف التاريخ الحالي الذي أعايشه أمام أعيني و أنا حي، فكيف لي و لغيري من العقلاء أن أصدق تاريخ الماضي المزيف الذي تم تدوينه من قبل الأقوياء خدمة لمصالحهم و ليس خدمة للتاريخ، .؟