د. هاني الروسان*
لست متأكدا ولكنني جازم ان الانخراط في المناقشات والتحليلات والفلسفات والتكهنات حول الذي سيكونه ترامب خلال ولايته الثانية بشأن الشرق الاوسط تحديدا فيه الكثير من السذاجة والسخافة ان لم يكن شيء اخر، لانه ببساطة شديدة اي ترامب لن يكون فلسطينيا اكثر من الفلسطينيين او عربيا اكثر من العرب، او حتى ايرانيا اكثر من الايرانيين، ولكنه سيكون اسرائيليا اكثر من الاسرائيليين، ان صح لنا ان نأخذ بمقاييس الاوساط الاعلامية الاسرائيلية التي ترى ان اي من اعضاء فريقه الرئاسي بدء بالمرشح لوزارة الخارجية ماركو روبيو وانتهاء بستيفن ويتكوف مبعوثه للشرق الاوسط مرورا ببيت هيغسيث المرشح لوزارة الدفاع، وكريستي نويم للامن الداخلي وتطبيق مشروع استير، فضلا عن سفيره لاسرائيل مايك هاكابي لو ترشح لانتخابات رئاسة الحكومة الاسرلئيلية في مواجهة نتنياهو فانه سيفوز عليه، لان كل واحد من اعضاء هذا الفريق اشد ولاء لاسرائيل من نتنياهو نفسه.
بيد ان ذلك لا يعني انه ليس امريكي اكثر، او ان شعاره امريكا اولا لا يعني له ما ينطوي عليه من دلالات وبرامج عمل وسياسات، بل العكس، غيرانه لم يعد مستبعدا وفقا لبعض الاوساط انه صار اشد ايمانا والتزاما بعقائد الصهيونية المسيحية واكثر قناعة بتطابق هذه العقائد ومصالح امريكا العليا، التي دشن الايمان العلني بها بوش الابن واصبحت منذ ذلك حين جزء من السياسات الرسمية للروساء الامريكيين ولكن بتفاوتات محددة بينهم، وعلى الرغم من عدم اعلانه ذلك رسميا، غير ان عديد الدارسين لسلوكه السياسي خلال ولايته الاولى سواء منها الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية لها او الاعتراف بضم الجولان وغيرها، اوخطابه الانتخابي في الانتخابات الاخيرة حول ضرورة توسيع اسرائيل ونيته الى جانب فريقه الرئاسي هذا، وضع جاريد كوشنير زوجة ابنته منسقا غير رسمي لشؤون البيت الابيض، تؤكد كلها على قناعاته بتطابق مصالح بلاده مع مصالح اسرائيل، وان هذه الاخيره هي خط هجومه الاول لتحقيق مصالح امريكا، واي تصور خارج هذا السياق لما ستكون عليه علاقة ترامب باسرائيل، محض هراء وخداع، وان البناء على شعار انهاء الحروب وعدم اشعالها مجددا، او الدعم على ذلك، يعني تغيرا في سياسات ولايته الاولى، سيكون بلا اساسات قادرة على الثبات.
صحيح ان ترامب غير معني بدفع اسرائيل نحو مزيد من الحروب، او انه لا يسعى للمواجهة العسكرية مع طهران كما اشارت لذلك بشكل غير مباشر صحيفة نيويورك تايمز في معرض تعليقها على لقاء ايلون ما سك مع السفير الايراتي في الامم المتحدة، غير انه لن يتخلى عن هدفه باسقاط النظام هناك كما اكدت ذلك اسرائيل هيوم التي قالت ان اسرائيل وفريق ترامب الرئاسي يعدون خطة للقضاء على الهيكل القيادي للنظام الايراني، بعد محاولة اذلاله بتشديد العقوبات الاقتصادية عليه والتصعيد بها كما ونوعا كما قالت صحيفة الفايننشال تيمز لتفليس الحكومة الايرانية وحرمان الصين من مهربات النفط الايرانية، بعد ان تبين لترامب فشل تطبيق هذه العقوبات في ولايته الاولى، وارغامه على توقيع اتفاق بديل عن الاتفاق السابق يضع حدا لطموحاته النووية وسحبها منه كورقة ضغط في سياساته الاقليمية، قد تكون بدأت مع التهديد الامريكي الصريح الذي حمله معه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي الى العاصمة الايرانية الاسبوع الماضي للامتناع عن المضي في محاولة الانتاج النووي الحربي بعد ان اتضح لها ان لدى ايران الان ما يكفي من المواد الانشطارية عالية التخصيب لصناعة ثلاثة اسلحة نووية وان قي مخزونها اكثر من غشرين كيلوغرام من اليورانيم المخصب ، كما انه لن يقف حائلا دون مشاريع اسرائيل التوسعية، سواء داخل فلسطين المحتلة بضم الضفة الغربية وتهجير مواطني غزة، او خارجها باعادة ترسيم الحدود السياسية والامنية مع لبنان وربما سوريا، هذا الى جانب توسيع نطاق علاقاتها الاقليمية بتسريع التطبيع مع دول المحيط العربي ووضعها على على رأس تحالف امني اقليمي سني ان صح التعبير وجاز في مواجهة ايران.
وترامب الذي يعي جيدا اهمية الشرق الاوسط كسوق استهلاكية للسلاح وغيره ومخزون هائل للطاقة وودائع بنكية اكبر في استراتيجية احتواء الصين، فانه لن يدفع به لفوضى من شأنها ان تحوله بسهولة الى بيئة معادية للمصالح الامريكية، وفي الوقت نفسه فانه لن يدعه ليتطور وينمو لان في ذلك مخاطر نمو قوة تنافسية تجعل منه قطبا مستقلا، سيضر مستقبلا بها وبحليفتها فيه، وهو ما يضع سياسات ترامب الاقليمية في سياق واضح، يقوم على عزل المنطقة وبناء نوع من التوازن بين قواها يميل اكثر لمصلحة اسرائيل كقوة احتياط استراتيجية يمكن اللجوء اليها في الضرورات القصوى، مع ما يتطلبه ذلك من توسيع مدياتها الامنية.
ويجوز كل ما ذكرناه واكثر منه لسبب وحيد وبسيط وهو ان النظام العربي يواصل غيبوبته، وان وحداته غير معنية الا بتأمين استمرار الوجود بحده الادنى، والبعض منها وخاصة دول المال العربي ستكتشف ولكن بعد فوات الاوان ان خطوط دفاعها الرئيسية في صناديق الاستثمار لن تصمد كثيرا في حماية قرارتها السيادية ما لم تقتنع بترابط امن الاقليم مجتمعا وتعمل على بناء استراتيجية امن اقليمي متكامل تتجاوز الاعراق والطوائف، والتي بغيابها سيكون ترامب وحتى نتنياهو طليقي الايدي في فعل ما يريدان.وما لم تقتنع باستخدام قوة الشارع والسماح لقواه بالتعبير عن سخطها ورفضها للسياسات الامريكية وتفعيل اسلحة المقاطعة وسحب الاستثمارات وبناء شراكات دولية بديلة، فان لا ادارة ترامب ولا الادارات التي ستليها ستغير في سياساتها شيئا، بل ستتمادى في عدوانيتها واستهتارها بوجودنا وجدوى استمراره اصلا.
*نقلا عن راي اليوم