الأربعاء , ديسمبر 4 2024
الرئيسية / اراء / استعادة معايير العدالة الدولية!

استعادة معايير العدالة الدولية!

د. سعد ناجي جواد*
واخيراً، وبعد اكثر من عام وتردد وانتظار، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا تاريخيا يتمثل في اصدار مذكرتي توقيف بحق كل من بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال ويوآف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، متهمة إياهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم تجويع وقتل عشوائي واستهداف للمدنيين غير مبرر والهجمات الممنهجة على المستشفيات والاطباء في غزة بالذات، والشعب الفلسطيني بصورة عامة. كما تسربت اخبار تقول ان هناك مذكرات اعتقال سرية اخرى صدرت او ستصدر بحق جنود وضباط وأشخاص اسرائيليين آخرين لدورهم في هذه المجازر. وقالت المحكمة ان قبول إسرائيل باختصاص المحكمة، او تشكيكها به، لا يؤثر على الامر. ولكي تجنب الجنائية الدولية نفسها تهما جاهزة كمعاداة السامية، (والتي أطلقت فعلا من قبل مسؤولين اسرائيليين وأميركان بعد صدور القرار)، أصدرت ايضا مذكرة اعتقال اخرى بحق القائد العسكري الفلسطيني محمد الضيف.
بالتأكيد سيظهر علينا من يقول ( او يردد ما تقوله إسرائيل) ان هذا القرار والمذكرات لا قيمة لها وانها لن تطبق، وان إسرائيل محصنة من هكذا اجراءات لسببين: أولهما عدم قدرة المحكمة على تنفيذ هذه القرارات والثاني الحماية الأمريكية اللامتناهية للكيان المحتل، وكان هذا الأمر واضحا في ردود الأفعال العدوانية والمتعجرفة من قبل مسؤولين في الادارة الحالية وآخرين من اطراف الادارة المستقبلية التي اختارها الرئيس القادم. (في الحقيقة فان السخط الذي أبدته الوجوه المرشحة للإدارة الأمريكية القادمة والكلام غير اللائق الذي استخدمته والمقرون بالتهديدات، لابد وان يوضح للعرب وللعالم طبيعة هذه الادارة وكيف انها قد تقود الامور إلى مهالك لا حصر لها).
لكن ومهما قيل، وبعضه صحيح جدا، فان ذلك يجب ان لا يمنعنا من ان نفرح بالمذكرات بعد ان انتظرنا صدورها لأكثر من سنة، ولا ان نتغافل عن إيجابياتها. فأولا هذه هي المرة الاولى التي تصدر فيها هكذا مذكرة تجاه رئيس وزراء اسرائيلي، وثانيا انها المرة الاولى التي تتسابق فيها الحكومات الاوربية لإعلان التزامها بها، ومن بينها دول عرفت بدعمها الكبير لإسرائيل (هولندا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا على سبيل المثال، وأول الغيث كان إلغاء وزير خارجية هولندا زيارته لاسرائيل)، وثالثا ان المذكرة ثبتت وحددت نوعية الجرائم المرتكبة، (ابادة بشرية، نشر المجاعة، قتل غير مبرر للمدنيين وغيرها)، وكلها جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن لإسرائيل تفنيدها بعد ان فضحها بعض من تعرض لها وكشفها الإعلام العالمي والتظاهرات التي مازالت تجتاح مدن العالم.
الملاحظة المفرحة الأخرى ان هذه المذكرات تأتي في اليوم التالي لذلك الذي صَدَمَت فيه الولايات المتحدة العالم والعرب والفلسطينيين والإنسانية بالذات بموقف صلف ومتعجرف وينم عن حقد وانحياز واضح تمثل في استخدام الفيتو ضد قرار دولي لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، وافق عليه باقي اعضاء المجلس، ولم يمتنع او يتغيب اي واحد منهم عن الجلسة (14 عضوا). بكلمة اخرى ان الولايات المتحدة وقفت فعليا ولوحدها ضد كل العالم مشجعة الحكومة الاسرائيلية على الاستمرار في ارتكاب جرائم ابادة بشرية ضد ابناء غزة. ولعل هذا ما يفسر غضب الولايات المتحدة، حيث شعرت ان العالم قد اتخذ موقفا ضد جبروتها.
اما رد فعل دولة الاحتلال فلقد تمثل باللغة الهابطة التي استخدمها كل من تحدث عن القرار (الذي لم تكن تتصور انه سيصدر)، وتصورت انها بمحاولاتها تشويه سمعة قضاة المحكمة وتهديدهم والمحكمة وتحريض الولايات المتحدة عليها، بانها ستنجح في تعطيل صدور المذكرات. وتوج رد الفعل بالكلمة الانفعالية التي ألقاها نتنياهو مساء امس معتبرا ان القرارات (يوما اسودا للعالم). من جانبه صرح وزير القضاء الاسرائيلي ان المحكمة اصبحت اداة للشر.
ولعل سائل يسأل لماذا انفعال إسرائيل على المحكمة وعلى القرارات وهي تقول انها لن يتم فرض تنفيذها بوجود الولايات المتحدة؟ هذا الأمر يجب ان لا ينظر اليه بهذه البساطة، فلقد كشفت عملية اصدار المذكرات ان إسرائيل التي كانت ترتكب الجريمة تلو الاخرى ولا تجد من يقف بوجهها، اصبح رجالاتها الان متهمون ومطاردون من قبل القضاء الدولي، وان المنصب الرسمي للمسؤول لا يوفر له حصانة قانونية، وانها (إسرائيل) اصبحت منبوذة دوليا ومن اقرب الدول التي كانت تدافع عنها (الدول الاوربية نموذجا)، واصبح نتنياهو وغالانت ملزمين ليس فقط بتجنب زيارة الدول الأعضاء في محكمة الجنايات وانما لن يسمح لطائرة تقلهم المرور فوق اراضي هذه الدول (124 دولة حول العالم، من بينها 13 دولة في وسط أفريقيا عمل نتنياهو المستحيل في إعادتها إلى دائرة النفوذ الصهيوني). كما ان القرارات ستجعل دولا كثيرة تعيد النظر في تعاملها التجاري مع الاحتلال، ناهيك عن تزويدها بالأسلحة.
ثم ان المذكرات التي صدرت ذات صبغة قانونية (وليس اجراءات سياسية معادية لإسرائيل كما حاول نتنياهو والولايات المتحدة تصويرها)، لا يمكن الطعن فيها او استئنافها او المطالبة بنقضها كما صرحت اسرائيل، إلا في حال ذهاب الاشخاص الذين صدرت المذكرات بحقهم إلى مقر المحكمة (لاهاي) والخضوع للاستجواب ومواجهة كل الأدلة المثبتة، واذا فشل المتهم في تفنيد الاتهامات فان المحكمة قد تصدر قرارا بسجنه ومحاكمته من قبل هيئة قضاة دوليين. هناك من يقول ان هناك اجراء آخر ممكن يتمثل في قيام المحاكم الاسرائيلية بالتحقيق مع المتهمين، (بموافقة المحكمة الجنائية) وبموجب لائحة الاتهامات التي تم الاعتماد عليها، إلا ان هذا الامر لن يحصل لسببين الاول ان نتنياهو نجح في الانقلاب على القضاء الاسرائيلي واوصل اشخاصا موالين له على رأسه، مثل وزير القضاء، وثانيا ان هذا الامر إذا حصل فانه سيعني اعتراف غير مباشر بقانونية قرارات المحكمة والتهم الصادرة عنها.
اما بالنسبة للمجتمع الدولي فان اي تهاون في الالتزام بالقرارات سيضعها وقواعد القانون الدولي والإنساني على المحك، إذ لا يمكن للمجتمع الدولي ان يكون انتقائيا في النظر لقرارات الجنائية الدولية، (يعني يلاحق بوتين ويعفي عن نتنياهو).
بالتأكيد ستنتظر اسرائيل رد فعل الولايات المتحدة، او تسلم الرئيس ترامب لسلطاته، ولكن بعد صدور القرار لا يوجد في الأفق ما يظهر انها (اميركا) قادرة على ابطال قرار المحكمة.
ما يشغل بال نتنياهو وزمرته أكثر هو ما ستقدم عليه محكمة العدل الدولية بشان القضية المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا التي اتهمتها بارتكاب عمليات ابادة جماعية في غزة. بالتأكيد فان قرار المحكمة الجنائية الدولية (توأم محكمة العدل الدولية) سيزود القضاة الدوليين بقدر كبير من الشجاعة لإصدار قرارات ادانة بشأن هذه القضية، وفي هذه الحالة سوف لن تكون آراء فقط وانما قرارات ترفع إلى الامم المتحدة لتطبيقها.
خلاصة الكلام ان يوم امس كان يوما اسودا في تاريخ الاحتلال وليس البشرية كما صرح المتهم الاول في القضية، وان نتائجه وتردداته سوف لن تتوقف، ويوم انتصار للعدالة الدولية والإنسانية. وأكثر ما يشعر اسرائيل بالإحباط هي حقيقة ان المحكمة الجنائية الدولية، التي طُرِحت فكرتها في عام 1955 وجرى تأسيسها في عام 2002، قد بني اساسها على ملاحقة النازيين الذين اتهموا بقتل اليهود في المانيا، واليوم يجد قادتها نفسهم متهمون وملاحقون من نفس المحكمة التي أرادوا من خلالها ابتزاز العالم بتهم معاداة السامية.
*كاتب واكاديمي عراقي

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

لعنة البترودولار!

د.طارق ليساوي* أن الدرس الأهم الذي ينبغي ان نستخلصه من ليبيا و سوريا و العراق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *