د.طارق ليساوي*
أن الدرس الأهم الذي ينبغي ان نستخلصه من ليبيا و سوريا و العراق و اليمن و السودان و غيرها من البلاد هو ان الحكم الديكتاتوري يقود لخراب الأوطان و تدمير العمران و سفك الدماء، لابد من إستعادة الشعوب سيادتها و إرادتها ، لابد من الإحتكام لإرادة الأغلبية الصالحة الحاملة لجينات العمران و الاستخلاف، لابد من تغليب منطق العقل و الحكمة..
نقد ذاتي:
علينا كنخب و كأفراد و مجتمعات تبني حس نقدي ، علينا محاسبة ذواتنا و سلوكنا بعيدا عن الأوهام و تضخم الأنا، و نحاول الإجابة على إشكاليات بنيوية : لماذا مشهد الهروب لا نراه إلا في بلداننا العربية؟ هذا المشهد كنا نلاحظه في مناطق نزاعات بأسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية، لكن حمدا لله هذه البلدان تجاوزت جراحها و أدركت أن دورة الدم لا طائل منها و ان الحكم المستبد يقود للهاوية..
لماذا بلداننا أصبحت مسرحا للصراعات الطائفية والإثنية رغم أنها في الأصل أمة واحدة و يوحدها الإسلام و المصير المشترك؟ لماذا شعوبنا تنجر بسهولة لسياسات التجييش والتضبيع و الإلهاء و تعجز عن توحيد جهودها و الاجتماع على كلمة سواء خدمة لمصلحتها الحقيقية و مصلحة أبناءها؟ لماذا نتعاطف مع الفساد و هدر ثروات المجتمع؟ هل بلجاننا حقا فقيرة و تنقصها الثروات و الموارد؟
البيترودولار:
ما ينقص المنطقة حقا و حقيقة هو العقل و الحكمة و تغليق المنطق و تقديم الصالح، مصيبة المنطقة أنها غنية بالثروات و الموارد، و لأجل ذلك هي مطمع للطامعين ..المنطقة تفيض بالثروات و منها النفط ، و لذلك نجد أن أهم مصطلح أو بالأحرى مصيدة في العصر الحديث إرتبط بالبترول العربي و أعني ” البيترودولار” ، هذا البترول العربي و الإسلامي هو الذي منح لأمريكا و دولارها قبلة الحياة و جعلها قادرة على السيطرة على مقدرات العالم ..
نعمة أم نقمة:
هذا البترول تحول من نعمة إلى نقمة و أصبح سبب مأساتنا في المنطقة ككل ، خاصة في ظل غياب المساءلة و المحاسبة و الحكم الرشيد، و غياب هذه الأدوات الرقابية، سبب رئيس فيما نراه من تبذير لثروات الشعوب العربية، و لعل هذا التبذير و الإسراف هو الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إصدار تقرير سنة 2021 يحذر فيه البلدان النفطية أنها ستفقد ثرواتها النفطية بعد حوالي عقدين من هذا التاريخ، فأين تبخرت أموال الخليج ؟ و هل نجحت هذه البلدان في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي كما فعلت العديد من البلدان التي تتوفر على ثروات طبيعية؟..
إنفاق إفسادي:
للأسف فالثروات العربية تنفق في الهدم و التدمير و الإفساد، و لم يتم توجيهها للبناء و التنمية و التعمير…أنفقت في تدمير أغلب بلدان العالم العربي و إعاقة تحرر الشعوب العربية، فبأموال الخليج دمرت سوريا و ليبيا و اليمن و العراق ، و بأموال الخليج تم دعم الانقلاب العسكري في مصر و تمويل مشاريع السيسي الشخصية و الفئوية..و بأموال الخليج يبنى سد النهضة الذي يشكل أكبر تهديد لمصر و شعبها..و بنفس الأموال تم تدمير اليمن و تشريد هذا الشعب..و بأموال النفط تم تمويل الانقلاب على حكومة “أردوغان” في تركيا عام 2016 ..و بأموال النفط تم تأجيج الفتنة الطائفية بين السنة و الشيعة في العراق و لبنان..و بأموال النفط تم الاتفاق على تمويل “صفقة العار” و تصفية القضية الفلسطينية، و التخلي عن القدس و حق اللاجئين و إقبار الحقوق الفلسطينية في أرض فلسطين لصالح الكيان الصهيوني المغتصب للأرض و العرض..و بأموال العرب يذبح إخواننا في غزة و لبنا و ما خفي أعظم ..بإيجاز أموال العرب تم استثمارها في تدمير الوطن العربي و خدمة المصالح الصهيو-صليبة وتأبيد المشاريع التوسعية الإمبريالية…
الضحية الشعوب:
و الشعوب بالنهاية هي من تدفع و ستدفع ثمن هذا الفساد من قوتها و مستقبلها و مستقبل أبنائها..فهناك عملية لتوريث الفقر و الجهل و انعدام التنمية، و المستقبل في ظل الظروف الراهنة لن يكون حتما إلا أكثر سوءا و سوداوية، و تغيير هذه الحتمية ، رهين بموقف الشعوب حاضرا من الفساد و النخب الفاسدة، و صمت الشعوب و قبولها بالوضع القائم و استسلامها لمنطق القمع و التضليل سيحكم عليها بالاستمرار في نفس الحلقة المفرغة من الفقر و التفقير و التجهيل و التهميش و القمع المنظم…
ليس بين القنافد أملس:
ففساد الأنظمة العربية الحاكمة أصبح أمرا واضحا و شبه مؤكد ، و “ليس بين القنافد أملس”، فمن المؤكد أن العالم العربي الإقليم الوحيد في العالم الذي لا يزال يعيش تحت رحمة الفساد السياسي و الاقتصادي، واحتكار السلطة و قمع الحريات المدنية والسياسية، هذا إلى جانب إتباع سياسات عمومية عرجاء لا تخضع لأي منطق عقلاني، فحالة الفقر و انسداد الأفق لدى أغلبية شباب المنطقة ليس نتاج لضعف الموارد كما يقول أصحاب الكراسي و المكاسب، فلو كانت البلاد العربية تعاني فعلا من ضعف الموارد لما اكتشفنا ملايير الدولارات تهرب سنويا إلى خارج حدود العالم العربي…في الوقت الذي تعاني فيه بلدان عربية من اتساع دوائر الفقر و التهميش…
موقف شعبي عاقل:
فالاختيارات التنموية و السياسية المتبعة في أغلب هذه البلاد لن تقود –حتما- لمستقبل أفضل و على الشعوب أن تدرك هذه الحقيقة حتى تتحرك صوب تغيير وجه السياسات و الاختيارات الفاشلة و مواقف الشعوب الأخرى ينبغي الأخذ بها و تمثلها عملا بالنصيحة النبوية ” الحكمة ضالة المؤمن” ، فالشعب الصيني و الروسي و الإسباني و الصهيوني و الماليزي و الأمريكي و الكوري يرفضون الفساد و ينتفضون ضده…
و لتغيير الأوضاع ينبغي ان يدرك الشعب دوره و رسالته و ينسلخ الناس عن أنانيتهم المقيتة، و يدركوا أن لا مناص من تغيير جماعي و تفعيل قانون الكم، فعندما تتحرك الأغلبية فإنها ستحدث التغيير، لابد من موقف شعبي عاقل و مسؤول و جاد لإنقاذ سفينة الوطن و قطع دابر المفسدين في الأرض ..
معضلة الملايو:
ولتوضيح الصورة سأستحضر تجربة ماليزيا، أذكر أن محمد مهاتير باني نهضة ماليزيا، قبل توليه السلطة بنحو 11 عاما أصدر كتابا في العام 1970 باسم “معضلة الملايو”، انتقد فيه بشده شعب الملايو واتهمهم بالكسل والرضا بأن تستمر بلادهم دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، فقرر الحزب الحاكم حينها والذي يحمل اسم “منظمة الملايو القومية المتحدة” منع الكتاب من التداول رسميا نظرا للآراء العنيفة التي تضمنها…
أهمية المكاشفة:
لكن هذا الإنتقاد والمكاشفة جعل الشعب الماليزي يغير سلوكه، و أصبح مهاتير رمز للدولة و أب للشعب بكل أطيافه، وإستمر في السلطة نحو 22 سنة، إذ تولى رئاسة الوزراء منذ (1981- 2003)، و إنسحب من السلطة وهو في أوج عطاءه. وقد نجح في نقل ماليزيا من دولة زراعية “مهملة” تعتمد على زراعة الموز والمطاط إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وزاد دخل الفرد السنوي من ألف دولار إلى 16 ألف دولار، وارتفع حجم الاحتياطي النقدي من 3 مليارات دولار إلى 98 مليار دولار، وقفز حجم الصادرات من نحو 15 مليار دولار إلى 200 مليار دولار.
حرب ضد الفساد:
عندما تفشى الفساد في البلاد قررت جموع المواطنين الإحتجاج أمام بيت مهاتير لتخرجه من وتقاعده السياسي وهو في سن 93 سنة، تعيده لحكم مجددا بعد فوز ائتلافه المعارض في الانتخابات البرلمانية، ليصبح أكبر سياسي منتخب في العالم، وأدى مهاتير محمد يوم الخميس 10 مايو 2018 اليمين القانونية رئيسا للوزراء، ليتسلم السلطة قبل نحو عامين من انتهاء خطة “2020” ..و بعد عودته للسلطة عام 2018، تمحورت جهوده حول مكافحة الفساد وقد نجح في أقل من 10 أيام من إسترداد أغلب الأموال المنهوبة ومحاسبة الجناة وقبل عودته لتقاعده مجددا قام بوضع أليات عملية فعالة و سن تشريعات صارمة لمنع الفساد و المفسدين…
لذلك، فإن صمت الشعوب العربية على الرغم من الفساد و الاستبداد الطافح و الفاضح، يدعونا حقيقة إلى ضرورة تبني نقذ ذاتي صارم، و تبني أسلوب و منهج دقيق للتمحيص و التمييز بين الصالح و الطالح و الفاسد و الأمين و الوطني و العميل .. و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
*كاتب و أستاذ جامعي مغربي
شاهد أيضاً
نصرة إسرائيل في سوريا!
عبدالفتاح البنوس* إنه زمن كشف الحقائق وسقوط الأقنعة بكل جلاء ووضوح، على مدى أكثر من …