اليمن الحرالاخباري/تقرير: زهور السعيدي
“ذرفتُ دموعًا حارقة، شعرتُ بمرارة وحسرة في صدري، كأن هناك من يتعمد القضاء على رزقنا الضئيل ويترصدنا بسبق الإصرار”.
بهذه الكلمات المؤثرة، يعبر الصياد فيصل محمد عن ألمه وهو يشاهد كميات هائلة من الأسماك النافقة في أعماق البحر، على بُعد أميال من شواطئ الحديدة غربي اليمن. المشهد، الذي أصبح مألوفًا لصيادي المنطقة، كان نتيجة مباشرة للصيد الجائر، الذي لا يهدد فقط الثروة السمكية، بل يمزق أيضًا أحلام ومصدر رزق آلاف الصيادين.
فيصل، الذي ينتمي إلى قرية القطابا شمال مدينة الخوخة، يصف هذا الكابوس المتكرر، حيث تبتلع الأمواج أسماكًا وأحياء بحرية مرمية على السواحل بسبب ممارسات الاصطياد العشوائي. هذه الظاهرة، كما يقول، باتت تهدد بالقضاء على المخزون السمكي الذي يعتمد عليه ملايين اليمنيين.
الهدر المنظم للثروة
تمتلك اليمن شريطًا ساحليًا يزيد عن ألفي كيلومتر، يمتد عبر البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن. يعمل في مهنة الاصطياد التقليدي أكثر من نصف مليون يمني، وفقا للجهاز المركزي للاحصاء ويعيلون مئات الآلاف من الأسر في القرى والمدن الساحلية. لكن، وفقًا لماجد المشولي، شيخ الصيادين في الحديدة، أصبحت المياه الإقليمية اليمنية مستباحة لمراكب الاصطياد التجاري التي تمارس عمليات جائرة بتواطؤ من بعض الجهات المستفيدة.
يقول المشولي لـ”عشة”: “شركات الاصطياد تبحث عن أنواع محددة من الأسماك، لكنها تدمر الشعب المرجانية وتُهدر كميات هائلة من الأحياء البحرية. يتم جرف ‘المطارح’، وهي مواقع حساسة لنمو وتكاثر الأسماك، عبر وسائل مدمرة كالديناميت”. هذا الاستنزاف المتعمد للمخزون السمكي، خاصة في البحر الأحمر، يُحدث أضرارًا بيئية جسيمة، إذ تُعد مياهه صغيرة ومحدودة مقارنة بالبحر العربي وخليج عدن.
وتقدر منظمة الأغذية والزراعة الأممية “الفاو” مساهمة القطاع السمكي بـ15% من اجمالي الناتج المحلي لليمن كما تقدّر المنظمة الدولية، عائدات صادرات الأسماك بـ 13 في المئة من مجموع الصادرات غير البترولية للبلد.
و يشكل قطاع الصيد رافدا اقتصاديا مهما لليمن، إذ تحتل صادرات الأسماك المرتبة الثانية بعد الصادرات النفطية في العام 2015 بحسب تقديرات منظمة الاغذية والزراعة “الفاو”، في وقت تمثل فيه مصدر رزق عشرات الالاف من الصيادين المحليين يعولون الملايين من افراد عائلاتهم على امتداد السواحل اليمنية.
وقطاع الصيد يعد وفق خبراء من القطاعات الواعدة التي من الممكن ان يتم توظيف موارده السمكية الكبيرة لتحقيق الأمن الغذائي وتحسين الاقتصاد لكن تحول دون ذلك الكثير من التحديات والصعوبات والمخاطر وفي مقدمتها الصيد الجائر الذي يصفه الصيادون المحليون بالكابوس الذي يخيم على تفكيرهم ليل نهار حيث فقد اكثر من 35 الف صياد مصدر دخلهم اضافة الى تداعيات الصراع الحالي وما أسفر عنه من توقف كثير من المشاريع السمكية ذات الصلة بقطاع الصيد التقليدي الأمر الذي القى بتأثيراته السلبية على الاقتصاد اليمني عموما.
غياب الرقابة وتفاقم الأزمة
الصياد أمين ربيد من أبناء قرية دار الأعلى شرق مدينة الحديدة أصبح عاطلا عن العمل بعد أن كان يمتلك قاربا تقليديا متوسط الحجم يدر عليه مرودا ماديا جيدا، وكان يعيش وهو وزوجته وأطفاله الستة كما يقول في مستوى معيشي أفضل ولكن تغير كل شيء مع استشراء ظاهرة الصيد الجائر في البحرين والاحمر والعربي، ويضيف هذا الصياد وهو في العقد الرابع من العمر في حديثه لـ”عشة” بأنه مثل الكثير من زملائه الصيادين تعرضوا لخسائر مباشرة ومتتالية، إذ كانت تكلف الرحلة البحرية مليون ريال تقريبا وفي كل مرة يطول البحث عن الاسماك دون جدوى بعد تدمير كثير من “مطارح” الاسماك فتراكمت الديون للوكلاء المتعهدين بتجهيز وتمويل رحلات الاصطياد حتى وصلوا الى مرحلة الافلاس واليأس.
وتقدر جمعيات تعاونية أعداد الصيادين التقليديين الذين فقدوا مصادر عيشهم بسبب الاصطياد غير القانوني بقرابة 40 الفا باتوا يعيشون أوضاعا معيشية سيئة للغاية ويعود تاريخ مشكلة الصيد الجائر في اليمن إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما فُتح المجال للاستثمار في الاصطياد التجاري دون رقابة فعالة. ومع استمرار الصراع السياسي منذ أكثر من عقد، تفاقمت الظاهرة بشكل كبير. يقول سالم صديق، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التعاوني السمكي: “حتى عندما كان هناك استقرار سياسي، لم تكن الرقابة كافية. تعيين مراقبين على السفن التجارية فشل، إذ كانوا يتلقون رشاوى، مما سمح للسفن بالاستنزاف العشوائي دون قيود”.
البيئة البحرية ومراعي الشعب المرجانية التي تتغذى عليها الأسماك كانت أبرز ضحايا ظاهرة الاصطياد غير القانوني.. وتؤكد تقارير اقتصادية رسمية ان الخسائر المباشرة الناتجة عن رمي سفن الصيد التجاري لكميات كبيرة من الأسماك “المرتجعة” الى البحر تتراوح مابين ملياري الى خمسة مليارات دولار إذ تنطوي هذه الخطوة على أضرار كبيرة ومباشرة على الشعب المرجانية التي لا تتعافى اذا تعرضت للجرف أو التلوث الا بعد ثلاثة عقود كما يقول الخبير في الصيد التقليدي صبري المشولي وربما لا تتعافى أبدا ويضيف المشولي وهو أحد أقدم وأشهر الصيادين في الساحل الغربي إن القضاء على الشعب المرجانية يعني تلقائيا ضياع المخزون السمكي المستقبلي لفترات زمنية طويلة.
أهمية الاصطياد التقليدي
يعتبر الاصطياد التقليدي، باستخدام الأدوات البسيطة، وسيلة فعالة للحفاظ على الثروة السمكية. عبدالحكيم سليمان، صياد مخضرم من مدينة الخوخة، يوضح أن الأدوات التقليدية تستهدف الأسماك الكبيرة، ما يسمح لصغار الأسماك بالتكاثر. لكنه يضيف بحسرة أن بعض الصيادين المحليين أنفسهم يستخدمون شباكًا صغيرة الفتحات، ما يفاقم استنزاف الموارد الطبيعية
ويجمع كثير من المختصين والمراقبين على إن مشكلة الاصطياد الجائر وتفاقمها لا تعود إلى غياب التشريعات والقوانين المنظمة للمهنة ولكنها على صلة بضعف الوعي الجمعي بخطورة هذه الممارسات على اقتصاد البلد ويشيرون الى وجود تشريعات جيدة تتضمن آليات رقابية وتنظيمية جيدة لهذا النوع من الاصطياد البحري من الناحية النظرية المشكلة فقط في مستوى التنفيذ الذي يتطلب وعيا جماهيريا ورسميا واسعا وانتماء وطنيا حقيقيا يغلب مصالح البلد على ما سواها من المصالح الضيقة
تبعات اقتصادية
وظل الاصطياد التجاري والاستثماري محط جدل كبير خلال العقدين الماضيين وعانت البلاد تبعات وخسائر اقتصادية وبيئية واضحة جراء مخالفات سفن الاصطياد التجاري وأثيرت الكثير من الشبهات حول تواطؤ بعض الجهات الرسمية والشخصيات النافذة في عدد من الحكومات المتعاقبة خصوصا فيما يتعلق بغض الطرف عن المخالفات الجسيمة لمراكب الاصطياد وضعف آليات الرقابة لكن لم يتم رسميا توجيه أي تهم لتلك الجهات والشخصيات ولم يسمع أحد عن إحالة أي مسئول للتحقيق في قضايا من هذا النوع .. وبعد اندلاع الحرب في مارس من العام 2015 توسعت المشكلة وصارت ظاهرة كما يصفها المختص في مجال الصيد التقليدي سلمان محمد عمر الذي يوضح ان غياب الدولة وضعف وهشاشة المؤسسات الحكومية المختصة بالقطاع السمكي عقب اندلاع الصراع الذي وفر أرضية مناسبة لكثير من ذوي المصالح لاستغلال الوضع الامني والسياسي المتأزم لتحقيق مكاسب مادية وكان الاستثمار في البحر بيئة خصبة للمخالفات وتشير تقارير رسمية الى ان هناك حوالي 200 سفينة ومركب تجاري تمارس الاصطياد الجائر في المياه الاقليمية اليمنية بضوء أخضر من بعض القوى المحلية المرتبطة بانظمة ودول اقليمية ودولية.
لا توجد أرقام واحصائيات رسمية حول حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة التي يتكبدها اليمن جراء الاصطياد غير القانوني غير أن هناك تقارير اقتصادية غير رسمية تقدر الخسائر بنحو عشرة مليارات دولار تشمل الأضرار الناتجة عن ممارسات الصيد المباشر وكذلك نتيجة توقف مشاريع سمكية محلية والأضرار التي لحقت بالصيادين التقليديين الذين يتصدرون قائمة ضحايا استفحال ظاهرة الاصطياد الجائر في المياه الاقليمية ويقول مختصون ان هذه التقديرات تتعلق بالخسائر والاضرار على المدى المنظور أما الخسائر الاستراتيجية فهي تزيد عن ذلك بكثير اذ ان الاضرار التي تتعرض لها الشعب المرجانية والبيئة البحرية جراء ممارسة ارباب الصيد الاستثماري تحتاج لعشرات السنوات حتى تستعيد شيئا من عافيتها وكل ذلك يلقي بظلاله القاتمة على حجم المخزون السمكي للبلد.
حلول ممكنة وسط التحديات
يعتبر قطاع الاصطياد السمكي حجر زاوية في اقتصاديات كثير من البلدان لكن مشكلة الاصطياد غير القانوني غالبا ماتكون العقبة الأكبر أمام تطوره وازدهاره وأداء دوره المأمول في الاقتصاد الوطني و
يشير الناشط البيئي عبده زياد إلى أن مكافحة الصيد الجائر تتطلب تضافر جهود السلطات والمجتمع المحلي. الحلول تشمل دعم الصيادين التقليديين وتوفير المعدات الحديثة لهم، إضافة إلى توعية المجتمعات الساحلية بأساليب الصيد المستدامة. كما يشدد زياد على ضرورة تحسين البنية التحتية لمراكز الإنزال السمكي وتعزيز الرقابة على ممارسات السفن التجارية.
الوضع السياسي والامني في البلد وخصوصا بمنطقة البحر الاحمر وخليج عدن وما تشهده من توترات عسكرية حاليا يحول دون وجود مثل المبادرات الدولية لكن هناك بعض المبادرات المحلية ” مجتمعية” في عدد من البلدات الساحلية على البحر العربي جنوبي وشرقي اليمن لكنها بامكانيات محدودة وتأثير ضئيل.
ومع غياب الحلول الجذرية واستمرار الوضع الراهن، تبقى السواحل اليمنية، بثرواتها السمكية الهائلة، مهددة بالاستنزاف والتدمير. في بلد يعتمد مئات الآلاف من سكانه على البحر، يبدو الحفاظ على الثروة البحرية ضرورة ملحّة لضمان استمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
تم انتاج هذه المادة بالتعاون مع منصة ريف اليمن الصحفية ضمن مشروع غرفة أخبار المناخ والحقوق البيئية “عشة”