زهير حليم أندراوس*
(“إنّ الشعوب التي تُساوِم المُستعمِر على شروط حريّتها، تُوقِّع في نفس الوقت على وثيقة عبوديتها، وإذا وجدتم أمريكا راضية عنّي فاعلموا أنّني أسير على الطريق الخطأ”، المارد العربيّ، المغفور له، جمال عبد الناصر).
يُقال إنّ الرسالة تُعرف من عنوانها، لكنّ التاريخ لا يُمكِن بأيّ حالٍ من الأحوال تحليله بناءً على الحاضر، ولا يُمكِن تجزئته، بل يتحتّم على كلّ مَنْ يُريد سبر أغوار هذه المرحلة أوْ تلك أنْ يعود إلى الماضي، كي يفهم الحاضر، ويُحاوِل استشراف المستقبل القريب والبعيد أيضًا، ومن هنا فإنّ فكرة التهجير، التي عادت وبقوّةٍ بعد طرحها من قبل الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، والقاضية بترحيلٍ جماعيٍّ لحوالي مليونيْ فلسطينيّ من قطاع غزّة، ليست وليدة اليوم أوْ أمس، بل هي الفكرة الجهنميّة والشيطانيّة التي قامت على أساسها الحركة الصهيونيّة-العنصريّة، والتي لم تذّخر جهدًا بهدف تطبيقها وإقامة الكيان على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ في العام 1948، والمعروفة عربيًا وعالميًا بالنكبة.
***
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنّ موشي هس يُعتبر من أوائل مَنْ طرح فكرة إعادة انبعاث الأمّة اليهوديّة. بدأت فكرة الترحيل تظهر إلى حيِّز الوجود مع بداية الظهور الفعليّ للحركة الصهيونيّة، والتي تم إنشائها على يد ثيودور هرتسل ولا تزال تجهد للحيلولة دون عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم رغم صدور قرار حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين في الجمعية العامّة للأمم المتحدة. كما قامت الحركة الصهيونيّة بالترويج بأنّ أرض فلسطين خالية خاوية، بالإضافة إلى نشر المقولة الكاذبة جملةً وتفصيلاً، والتي أطلقها ثيودور هرتسل “أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرضٍ”.
كما قال حاييم وايزمان، وهو أوّل رئيسٍ لدولة الاحتلال”هناك بلد صدف أنّ اسمه فلسطين، بلدٌ بلا شعبٍ، ومن ناحية أخرى يوجد هناك الشعب اليهوديّ وهو بلا أرضٍ، أيّ شيءٍ يبدو أكثر ضرورةً من إيجاد الجوهرة المناسبة للخاتم المناسب لتوحيد هذا الشعب مع ذلك الوطن”.
من هنا نفهم، ويجِب أنْ نفهم، أنّنا لم نفاجأ بتاتًا عندما تبيّن أنّ السواد الأعظم من الصهاينة في فلسطين التاريخيّة يؤيّدون خطة ترامب، لأنّهم في نهاية المطاف يرغبون بالاستيلاء على ما يُسّمونها بـ (أرض إسرائيل الكبرى)، وإفراغها بتاتًا من سُكّانها وأصحابها الأصلانيين، أيْ الفلسطينيين.
***
وبما أنّ دولة الاحتلال انتقلت عمليًا وفعليًا من العنصريّة إلى الفاشيّة، وأكبر دليلٍ على ذلك الجرائم الفظيعة التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة المُحتلّة، فمن المُتوقّع جدًا أنْ يُواصلوا في الاستعلاء والاستكبار والدوس على حقوق الآخرين بعنجهيّةٍ وصلفٍ ووقاحةٍ، مُتجاهلين عن سبق الإصرار والترصّد ردود الفعل العربيّة والإسلاميّة والدوليّة المُعارضة للترحيل الجماعيّ، ووفق كلّ الدلائل والمؤشّرات فإنّ الصهاينة من أقصى اليمين إلى أقصى ما يُسّمى بالـ “يسار” يُجمِعون على المبدأ القاضي بإبقاء إسرائيل الكبرى دون أغيارٍ، أيْ دون اليهود، وهذا التفكير بحدّ ذاته هو تحصيل حاصل للتربية التي يتلقونها في مدارسهم ومعاهدهم الدينيّة والعلمانيّة على حدٍّ سواء، ولا نتجنّى على الحقيقة إذا جزمنا بأنّ كره العرب يُوحِّد الصهاينة في الكيان وخارجه.
***
المؤسف، المُخجل، المُعيب والمّذِّل هو موقف الدول العربيّة من طرح خطّة ترامب، الذي لم يتورّع عن مطالبة عددٍ من الدول العربيّة باستقبال الفلسطينيين المرشحين للتهجير من قطاع غزّة، وهذا المطلب الأمريكيّ الوقح يدُلّ على أنّ الولايات المُتحدّة الأمريكيّة لا تُقيم وزنًا لـ 57 دولةً عربيّةً وإسلاميّةً، وتُحاوِل جهارًا نهارًا فرض سياساتها عليها بالحديد والنار، بالتهديد والوعيد، إذْ لا يُعقَل أنْ تُطرَح خطّة معتوه أمريكا ترامب بالتنسيق مع الكذّاب ابن الكذّاب نتنياهو بهذه الحدّة والعلنيّة، دون أنْ يأخذا بعين الاعتبار معارضة الدول العربيّة، وعلى نحوٍ خاصٍّ، الدول العربيّة، المُصنفة أمريكيًا وإسرائيليًا بالمعتدلة، ناهيك عن الدول التي وقعّت على اتفاقيات استسلام، وليس سلام، مع إسرائيل، وأيضًا الدول العربيّة، وتحديدًا الخليجيّة، التي فرض عليها الأمريكيّ التطبيع مع كيان الاحتلال دون ثمنٍ يُذكر، وتحديدًا في قضية العرب المركزيّة، أيْ قضية فلسطين، هذا إذا سلّمنا بأنّ فلسطين ما زالت قضية العرب الأولى.
***
وجريًا على العادة العربيّة التي باتت كالماجٌّ، أيْ الناقة التي تكبر حتى تمُجَّ الماء من حلقها، فقد تناولت وسائل الإعلام العربيّة هذا النبأ، وشبعنا تحليلات وتنظيرات، فيما دعت مصر لعقد قمّةٍ عربيّةٍ طارئةٍ لبحث خطّة ترامب، وفي الحقيقة فإنّ القمّة المُزمع عقدها لا تُسمِن ولا تُغني عن جوعٍ، ولا تختلِف بتاتًا عن سابقاتها، لأنّ البيان الختاميّ سيؤكِّد مرّة أخرى رفض العرب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، وسيُشدِّد على الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض وما إلى ذلك من تعابير إنشائيّةٍ أكل الدهر عليها وشرب، وهنا المكان وهذا الزمان لتذكير أصحاب الذاكرة الانتقائيّة أوْ القصيرة، أوْ الاثنتيْن معًا بأنّ العرب والمسلمين عقدوا قمّةً طارئةً في المملكة العربيّة السعوديّة، (تشرين الثاني-نوفمبر 2023)، وطالبوا بوقف العدوان على غزّة، ولكن البيان الختاميّ لا يُساوي الحبر الذي كُتِبَ فيه.
***
وجَبَت الإشارة في الختام إلى أنّ الدول العربيّة لم تصِل حتى اللحظة لتكون دول مواطنةٍ، كما أنّ سيادتها للأسف الشديد منقوصة بسبب الاستعلاء الأمريكيّ من ناحية، والارتباط بالبنك الدوليّ من ناحيةٍ أخرى، وهو البنك الذي يعمل دون كللٍ أوْ مللٍ على إفقار الدول الفقيرة وإيصالها إلى برّ الإفلاس لتُصبِح رهينة وأسيرة نزوات أمريكا وإسرائيل وخططهما الجهنميّة ضدّ الأمّة العربيّة من المُحيط إلى الخليج، وما يؤلمنا كعربٍ نفتخر بالانتماء لهذه الأمّة العظيمة أنّ العديد من الدول الغربيّة وأيضًا من أمريكا اللاتينيّة، تحدّت أمريكا وإسرائيل وانتصرت لفلسطين، فيما لم تجرؤ دولةً عربيّةً واحدّة على التلويح بسحب هذا السفير أوْ ذاك، ولا نُطالِب بإلغاء المعاهدات مع الكيان المُغتصِب.
*كاتبٌ فلسطيني
