خالـد شــحام*
سامحوني أيها القراء الأعزاء إذا كنت لا أجيد لياقات الصحافة والكتابات الصحافية المزججة التي تحاول أن تكون باردةً ومعلبة و(حيادية ) وتدعي بأنها تميل إلى العقلانية ، فكل هذه المعاني تغيرت اليوم بعد جرائم اليهودية الصهيونية بكل لغاتها وجنسياتها.
حاولت عبثا أن أكتب أية كلمة لمدة نصف ساعة مع فجر اليوم وأنا أحدق في أضواء رمضان المعلقة على النافذة، لكنني لم أستطع لأن الذعر ينتاب جسدي وثمة صورة عالقة في بلعومي تسد مجرى التنفس ، تلك الصورة ، صورة الأطفال الخمسة الممدين على طاولة المستشفى الأندونيسي وأيديهم الصغيرة مربوطة بخيط مقطوع من بقايا خيمة ، منذ صباح الخميس وأنا أشعر بألم يتجول بانتظام بين صدري وبطني ولم أتمكن من عمل شيء لأن جديلة شعر الطفلة الراكضة في جنان غزة راحت تطارد إنسانيتي وعروبتي وكرامتي وكل معاني الحياة التي يمكن وصفها بيولوجيا ، تلاحقت صور الجريمة في مزيد من الأكفان البيضاء المتشربة بالدماء المتسللة من الشهداء لكي تخاطب كل عربي وكل مسلم وكل كائن بشري عاقل ، واعذروني مرة أخرى لأنني فشلت ذريعا في الاعتياد على هذه الصور.
ماذا يريد الشيء الذي يقتل الأطفال بعمر السنة أو السنتين أو الثلاث ؟ ماذا يريد هذا المسخ من قتل النساء المعذبات العاجزات ؟ ماذا يريد هذا اللاإنسان من قصف خيمة ثمنها مائة دولار بصاروخ ثمنه ربع مليون دولار ؟ لقد انصهر البلاستيك والتصق بأجساد الأطفال المتفحمة ولم يتمكن المسعفون من فصل البطانية المحترقة عن جلد الطفل المودع بطهر في الوقت الذي تتكلم فيه آلة الإعلام الأمريكي والاسرائيلي والعربي عن (حماس الإرهابية ) و (حرب ) على الإرهابيين .
نحن أيها السادة امام أفعال الشخصية النموذجية لليهودية المعاصرة التي تعبر عنها بكل جلاء النسخة السموتريتشية أو البن زفيرية ، من قتل الأطفالَ يا سادتي هم أنفسهم القادمين من النسخة السموتريتشية القديمة التي قتلت الأنبياء وأقامت أعراس الدماء وأشعلت الفتن عبر التاريخ ، هؤلاء هم أنفسهم من نشروا ثقافة القتل على الهوية في لبنان والساحل السوري في المجزرة الطازجة وهم من يقفون وراءها مهما اختلف الفعلة أو تغيرت الوجوه ، هؤلاء هم أنفهسم من وضع فعلة اغتصاب نساء القرى في السودان وبقر بطون الحوامل وذبح الأطفال على مرأى أهاليهم بين يدي جماعة القتل السريع ، هؤلاء هم أنفسهم من صمم وفصل ووضع كتيب العمل والتعليمات في صيدنايا والسجون العربية قاطبة ، هؤلاء هم أنفسهم من أشعل الحرب العالمية الأولى والثانية ، هم ذاتهم من صمم ونفذ أحداث 11 سبتمبر ليأكلوا لحم العالم ، هم ذاتهم من فبرك ووضع نموذج كوفيد 19 ليفترسوا البشرية ويضحكوا عليها ، هؤلاء هم أنفسهم من ينشر البغاء والرذيلة ويعرش فوق شبكات الجنس والمثلية ومملكة الدعارة في العالم بكل قبحها وصورها ، هؤلاء هم أنفسهم من يديرون أكبر شبكة اقتصاد بنكي افتراسي ناهش للإنسان ومغذٍ للحروب في أي مكان ، هؤلاء هم أصحاب الأخدود والنار ذات الوقود وهم عليها قعود ، هؤلاء سادتي الذين نتحدث عنهم هم أصحاب الديانة اليهودية الصهيونية التي تنفذ جرائم القتل في فلسطين الان وينضم إليهم الفريق الأوروبي والفريق العربي وكل إنسان يرى في أعمالهم شيئا من الصواب أو يؤيد جرائمهم أو يتطاول على المقاومة في فلسطين أو لبنان أو اليمن ، هذا هو الحكم النهائي ولا مجال للتمديد او الاستئناف أو التعديل .
ولكن وعلى الرغم من فداحة الجريمة المتواصلة وإعادة تذخير قوى الحقد والشر والأذى داخل هذا المجتمع المجرم وقياداته المنتخبة لكونها الأشد إجراما إلا أنني أبشركم بعكس كل ما يحاولون بثه وتثبيته وإليكم البيان :
1-إن قيمة الانجاز السياسي والعسكري لجرائم القتل التي جددها الكيان بعصابة قيادته ومجتمعه المجرم وينضم إليهم المجرم الجديد ترامب هي صفر في صفر ، حيث أن هذه الجرائم لم تُفضِ إلى استسلام المقاومة أو تغير شروط المفاوضات أو إعادة الأسرى الصهاينة ، بل على العكس زادت أهل غزة صلابة وتمسكا بأرضهم وقضيتهم.
2-حذار من التعويل على قصص صغيرة داخل المجتمع الصهيوني وترويجها على أنها انتصارات أو تحطيم للجبهة الداخلية الصهيونية ، إن معارك نتانياهو الشخصية وحساباته السياسية الداخلية وإقالة رئيس الشاباك وتجميع الموالين له تمثل عوامل نخر ولا يمكن قياسها بأنها انتصارات ، والتظاهرات المتدفقة التي تضغط باتجاه إعادة الهدنة لا يمكن التعاطي معها بوصفها تعاطفا أو نصرة للشعب الفلسطيني ، إن الترتيبات داخل هذه المستعمرة هي ترتيبات عسكرية صرفة مؤتمرة بأوامر صارمة لا يهمها لو أبيد كل الشعب الصهيوني المجرم وعند الضرورة هنالك لوائح تعبئة سريعة التنفيذ ، لكن النقطة الجوهرية التي تشكل مكتسبا حقيقيا تكمن في منتجات الأزمة الداخلية والتي بدأت تتبلور إلى قناعة المستوطن الصهيوني بأن هذا الكيان والاستيطان فيه هو مجازفة وتقديم ثمن كبير ومعيشة محفوفة بكل المخاطر ، وجنسية اسرائيلية تحظى بأسوء سمعة عالمية في الوقت الراهن ، إن المشروع الصهيوني وحلفاؤه العرب هو الذي في خطر وليست المقاومة ولا غزة.
3-عندما نسمع تصريحا رئاسيا أمريكيا من نوعية ( إن الرئيس ترامب يدعم بالكامل ما تقوم به اسرائيل داخل غزة ) فهذا يعني أشياء كثيرة ، أولها أن الرئيس ترامب أعلن نفسه مجرما جديدا لوث يديه بالدماء العربية ويجب أن ينظر إليه بوصفه مجرم حرب يجب رفع الدعاوى القضائية ضده ، وثانيها أن مشروع الهدنة في غزة الذي يمتدح فيه نفسه ، لم يكن سوى غاية دعائية أو خديعة سياسية ظرفية لاترى ما بعدها وقابلة للتقلب بين كل الاحتمالات ، نحن أمام إدارة أمريكية بكامل فريقها تمثل نسخة عن الصهيونية في حالة من الاعتمادية المطلقة على القوة والبروباغاندا الغوغائية المتلحفة ببعض الايماءات الدينية الكاذبة والشعبوية الاقتصادية القائمة على البلطجة، لذلك يستمر في التلويح بفتح أبوبا الجحيم الخاص به ، و خرج علينا بالأمس ليلوح لايران بالنسخة المحدثة من الطائرة الضاربة إف47 ، لكن هذه الاعتمادية يسودها الغباء وقلة الخبرة وقصر النظر الشديد ، هذا التركيب السياسي الفاقد لمقومات الإدارة والحكمة السياسية وفنون الفهم الصحيح للعالم ومصادره يتمتع بعمر قصير وقدرة تدميرية هائلة لنفسه ولمن حوله ، يكفي أن سلوك هذه الإدارة داخليا وخارجيا قد ولد مستوى من الصراعات والتناقضات والعداوات الواسعة التي تنتظر لتنقض على هذه الإدارة من شتى المحاور وبقليل من الانتظار سوف تشاهدون النتائج خلال الأشهر القادمة.
4-إن الهدف من تجدد العدوان وتصريحات فريق القتلة من كاتس إلى زامور وغيرهم في عصابة الصهاينة هو محاولة استعادة زمام القوة والهيبة وإظهار التماسك الحقيقي بعد فقدانه داخل مسرح غزة ومنصات تسليم الأسرى ، وعلى الرغم من فداحة الجريمة إلا أن اهلية واستعداد الجيش الصهيوني للعودة إلى القتال داخل خرابات غزة هو امر مستبعد لأسباب عديدة ، اولها هو الاستنزاف على مساحة واسعة من الضفة إلى لبنان إلى سوريا إلى الحدود مع الأردن ، ثانيها فقدان صاحب المشروع لحماسة داعميه ومؤمني كلفه بعد الفشل الذريع طيلة 15 شهرا من القتل والتدمير وارتفاع الشكوك بقدرته على تحقيق فرضية الشرق الأوسط الجديد .
5- لقد تبين الان أن مشروع الشرق الأوسط الاسرائيلي يترنح لأن صاحب المشروع ليس في أحسن حالاته و المشروع أكبر بكثير من مقاسه ، هنالك نقاط سجلت له ولكن النقاط المسجلة ضده أكثر، الورقتان الأخيرتان في تقرير مصيره تتمثلان في نجاح فكرة التهجير التي تحاول اللعب على عدة تكتيكات ، والثانية هي توجيه ضربته إلى ايران في محاولة تحييد المشروع النووي ومحاولة تغيير نظام الحكم بالضغوط والعقوبات ، وطبعا كما نعلم النتيجة سلفا فهي فاشلة وغير ممكنة التحقق لأن الكيان الصهيوني أصغر بكثير من مواجهة شاملة مع ايران حتى بوجود الماستر الأمريكي صاحب القرار ، وفكرة التهجير لن تنجح أبدا .
6-إذا كان حلف الشيطان الذي يقترف الجرائم المرعبة ويمارس الإرهاب الذي يدعيه على الشعوب الأخرى يعتقد بأنه قد حقق (الصدمة والترويع ) في قلوب الشعوب العربية وشعب غزة خاصة فإجابة ذلك يقدمها لكم كل صبي فلسطيني او أم أو أب فقد كل أسرته داخل غزة ولست بحاجة للشرح ، هذه الجرائم لم تولد الخوف والرعب ولم ينكمش المقاوم الفلسطيني أو اليمني في زاوية بل على العكس ، هذه الجرائم ستدفعنا إلى تغيير كامل أصول اللعبة واعادة النظر في قواعد القتال وخطوط المحلل والمحرم ، هذه الجرائم كشفت للعالم بأكمله بأن هؤلاء حثالة تاريخية عادت من قبر التاريخ لتمارس دمويتها وحقارتها وجرائمها مرة أخرى ليس فقط بحق شعب فلسطين ، بل في أي مكان يتواجدون فيه ، ستكون هنالك نتائج بعيدة المدى أكبر مما تتخيلون لجرائمهم وأفعالهم .
7- إن روح المقاومة شيء مقيم في روح هذه الأمة ، عربيةٌ تقودها غزة واليمن ولبنان وإسلامية تقودها جمهورية ايران ، وبعكس ما يروج له العدو وبعض ضحايا التضليل فإن شعوب العرب والمسلمين هي من ستحمل وتنفذ وتكتسح حلف الشيطان في كل مواقعه ، لقد تمكن حلف الشيطان الأمريكي -الصهيوني من تحقيق انجازات ضخمة في القتل والتدمير كما فعلوا سابقا في افغانستان والعراق ، وتمكنوا من اللعب في أوراق المنطقة جيدا في لبنان وقبض حزب الله ، وسوريا وتفكيك مكانتها ، لكن ذلك لا يعني نهاية الأمر ولا إعلانا بفوزهم وتحقيق الوهم الذي يسعون إليه .
8-هنالك المتغير الأقوى والأهم الذي يهيمن على كل شيء وينكره بعض المجدفين ، إنه إيماننا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وحسابه ، هذا المتغير الذي يمثل الورقة الأساسية الرابحة في كل سياق المعركة العظمى القادمة هو الذي يؤكد حتمية النصر بعد سلسلة المجازر بحق شعوب العرب وهو الذي مكن أهل غزة من إظهار معجزة صمود جديدة فاقت كل الأوصاف واعادت زمن المعجزات .
إن هذا المتغير هو الذي مكن اليمن من أن يخوض المواجهة مع الشر الأكبر بصموده وتحديه وضرباته نحو فلسطين ، وفي غزة يتحول كل شيء إلى مقاومة ليرد على جريمة قتل الأطفال التي تتجلى فيها الروح السموترتشية ، حتى الحطام بنفسه يتحول إلى مقاوم ، هؤلاء الأطفال أو هذه الزهور اليافعة سنحفظها جيدا في إرشيف الألم لكي نرد ولكي لا ننسى ولكي لا نغفر أبدا .
غزة العظيمة أصبحت تتصدر شباك تذاكر الشهامة والكرامة بصحبة اليمن العظيم ، رجال غزة الصامدين فوق النار وبين الحطام سطروا أعظم آيات النصر ومعجزات الايمان الجديد ، اما حرائر غزة ونساؤها الجميلات فهن القناديل التي تضيء ظلمات العصر الاسرائيلي الذي ابتلع دول العرب والعالم بظلماته ، ستأتي بزهرات جديدات يعدن البسمة والحياة لكل من خربت منه الحياة ، سيأتين بمريم جديدة ويعدن تسريح الضفائر المقدسة ويعدن بناء الإنسان وبناء غزة مهما طغى وتجبر سموتريتش اليهودي ، أنتم الزائلون من لوائح التاريخ والمقاومة هي الباقية اليوم وغدا في أرض غزة .
*كاتب فلسطيني
