د. محمد رضا صادقی*
في الخطاب السياسي والإعلامي الغربي وبعض الدول العربية، غالبًا ما يتم تصوير إيران وحلفائها الإقليميين كعوامل زعزعة استقرار في الشرق الأوسط. هذه الرواية السائدة تقدم الجمهورية الإسلامية كفاعل مدمر، يدعم جماعات المقاومة ويتدخل في شؤون دول مختلفة، مما يتحدى النظام القائم ويسبب الفوضى. ولكن هل هذه الاتهامات تعكس حقائق ميدانية أم هي انعكاس لتنافسات جيوسياسية حول نظام المنطقة المستقبلي؟ هل إيران وحلفاؤها مثيرو الفوضى، أم أنهم يعملون على تقويض نظام مفروض ويسعون لإنشاء نظامهم المفضل؟
ad
الشرق الأوسط ومفهوم النظام المفروض
لفهم القضية بشكل أفضل، يجب أولاً الإجابة على السؤال: ما هو “النظام القائم” في الشرق الأوسط وكيف تشكل؟ بعد الحرب العالمية الأولى، تم ترسيم حدود المنطقة بناءً على اتفاقيات استعمارية مثل سايكس-بيكو (1916) ووعد بلفور (1917). هذه الحدود، التي تم تحديدها دون مراعاة رغبات شعوب المنطقة، فرضتها القوى الاستعمارية، ومنذ ذلك الحين، لعبت القوى الخارجية (بريطانيا وفرنسا أولاً، ثم الولايات المتحدة) دور الضامن لهذا النظام.
هذا النظام، خاصة بعد الحرب الباردة والعصر الأحادي القطبية، صُمم لضمان هيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل، وإبقاء دول المنطقة في حالة تبعية، وقمع أي تغيير جذري في موازين القوى. في مثل هذه الظروف، أي فاعل يتحدى هذا النظام يتم تصويره تلقائيًا في الخطاب الغربي كعامل زعزعة استقرار.
إيران والتحدي للنظام القائم
كانت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 نقطة تحول في التاريخ السياسي للشرق الأوسط، حيث لم تخرج إيران فقط من محور التبعية، بل أصبحت أهم قوة معارضة للنظام القائم. إيران، على عكس الأنظمة المحافظة في المنطقة، لم تعترف بالنظام المفروض وسعت لدعم حركات المقاومة لخلق تغييرات جذرية في معادلات القوة.
محور استراتيجية إيران في المنطقة يعتمد على عنصرين رئيسيين:
تقليل نفوذ القوى الخارجية: تؤمن إيران بأن أمن المنطقة يجب أن يُدار من قبل الفاعلين المحليين، وأن وجود القوى الخارجية (خاصة الولايات المتحدة) هو مصدر عدم الاستقرار. لذلك، تدعم طهران جماعات مثل حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، وأنصار الله في اليمن، لتغيير موازين القوة لصالح القوى المستقلة.
دعم جماعات المقاومة والحلفاء الإقليميين: إيران، على عكس النظام القائم الذي يركز على الحفاظ على تفوق إسرائيل وإضعاف جماعات المقاومة، تدعم الحركات المناهضة لإسرائيل في فلسطين ولبنان، وأنشأت شبكة من الحلفاء الأيديولوجيين والاستراتيجيين في العراق وسوريا واليمن والبحرين.
صراع الرؤى حول النظام: الحفاظ على الوضع القائم أم الانتقال لنظام جديد؟
ما تفعله إيران وحلفاؤها، من منظور الغرب والدول الموالية له، هو تحدٍ مباشر للنظام القائم. ولكن من وجهة نظر إيران، هذه الإجراءات ليست تقويضًا للنظام، بل إنشاء لنظام جديد قائم على الاستقلال وموازين القوة.
يمكن تحليل الاختلاف بين الرؤيتين من خلال نموذجين:
– رؤية الغرب والحلفاء المحافظين العرب: نظامهم المفضل يقوم على الحفاظ على الوضع القائم، واستمرار هيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل، ومنع ظهور قوى مستقلة في المنطقة. في هذه الرؤية، أي محاولة لتغيير الهياكل التابعة تُعتبر زعزعة للاستقرار.
– رؤية إيران ومحور المقاومة: نظامهم المفضل يقوم على تقليل التبعية للقوى الخارجية، وزيادة دور الفاعلين المحليين، وخلق توازن ضد تفوق إسرائيل ونفوذ الولايات المتحدة. من هذا المنظور، النظام القائم هو هيكل مفروض وغير عادل يجب تغييره.
لماذا تُتهم إيران بزعزعة الاستقرار؟
اتهام إيران بزعزعة الاستقرار لا يعكس بالضرورة أفعالها، بل يعود إلى سعيها لتغيير نظام تم تقديمه لعقود على أنه الوضع الطبيعي والمشروع. هذه الاتهامات ترتكز على ثلاثة محاور:
* معارضة الوجود الأمريكي والقوى الخارجية: إيران تعتقد أن الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ليس ضامنًا للأمن بل مصدرًا للتوتر. انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان وتقليل وجودها في سوريا هو نتيجة استراتيجية المقاومة ضد هذا الوجود.
* التحدي المباشر لإسرائيل ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية: إيران تدعم جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، مما يعيق مشاريع التطبيع مع إسرائيل ويحافظ على القضية الفلسطينية كمسألة مركزية.
*إنشاء شبكة من الحلفاء الإقليميين بدلًا من الاعتماد على الأنظمة المحافظة: إيران تدعم جماعات المقاومة، مما يخلق قوة نيابية تعيق سيطرة القوى الخارجية عبر الهياكل الرسمية.
نظام الشرق الأوسط المستقبلي: الصراع على أي نظام؟
السؤال الرئيسي هو: كيف سيُعرّف نظام الشرق الأوسط المستقبلي؟ هل سيستمر النظام الحالي القائم على هيمنة الولايات المتحدة وتفوق إسرائيل وتبعية الدول العربية؟ أم سيحل محله النظام الجديد الذي تسعى إليه إيران وحلفاؤها؟ إذا تم تثبيت نظام إيران، ستتحرك المنطقة نحو مزيد من الاستقلال وتقليل النفوذ الأمريكي وزيادة قوة الفاعلين المحليين. ولكن إذا استمر النظام الحالي، ستظل الهياكل التابعة ومحاور القوة التقليدية مسيطرة.
الخلاصة
اتهام إيران بزعزعة الاستقرار يعكس في جوهره تنافسات جيوسياسية. إيران وحلفاؤها يسعون لتغيير النظام القائم لصالح نظام جديد، بينما ترى القوى المسيطرة أي تغيير كتهديد لمصالحها. الشرق الأوسط على أعتاب تحول بنيوي، وهذا التحول ليس نتيجة أفعال فاعل معين، بل انعكاس لانتقال تاريخي من نظام مفروض إلى نظام جديد. مستقبل هذا النظام سيعتمد على نتيجة هذه التنافسات الجيوسياسية.
*كاتب وأكاديمي ايراني