مازیار شکوری*
مجال السياسة هو مجال يتعامل مع مصطلحات خاصة. فبشكل عام، تستخدم التيارات السياسية أو المدارس السياسية والأيديولوجيات المختلفة المفردات والمصطلحات السياسية كأدوات وأسلحة لتحقيق رغباتها وأهدافها. وأي تيار سياسي يتمكن من إنتاج مصطلحات سياسية تخدم أهدافه ونشرها على نطاق واسع بين الجماهير، يكون قد قطع نصف الطريق نحو تحقيق أهدافه، لأن كلما تماهت الجماهير والنخب في المجتمع أو المجتمعات المختلفة مع هذه المصطلحات الخاصة، تمكن ذلك التيار السياسي بسهولة أكبر من التقدم نحو تحقيق مقاصده.
فعلى سبيل المثال، يستخدم الاستعمار الغربي وأمريكا وإسرائيل مصطلح “إرهابي” لوصف معارضيهم، حيث يطلقون هذا الوصف على الفصائل والمناضلين الفلسطينيين، ويصنفون أيديولوجياتهم تحت مسمى “الإرهاب”. وإذا تم قبول هذه التعريفات والمصطلحات فيما يخص المجاهدين الفلسطينيين أو أي شخص آخر من قبل الفئات والطبقات المختلفة في المجتمعات الغربية، فلا شك أن الحكومات الاستعمارية الغربية والإسرائيلية ستتمكن بسهولة أكبر من قمع المناضلين الفلسطينيين، وتوفير المال والسلاح لارتكاب الجرائم لصالح الإسرائيليين، حيث لن يواجهوا مقاومة أو اعتراضات داخل مجتمعاتهم.
إذا تمكن المستعمرون أيضًا من غرس هذه المصطلحات في المجتمع الفلسطيني، وفي الشعوب العربية، وفي الشعوب الإسلامية، أو حتى في جزء من هذه المجتمعات، فسيكون عملهم أسهل. في هذه الحالة، سوف يعتبر جزء من المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية المقاومة الفلسطينية والتيارات الفلسطينية ذات أيديولوجيا إرهابية، وسينظر إلى أفرادها على أنهم إرهابيون. وأقل فائدة يمكن تحقيقها من ذلك هي أن جزءًا من هذه المجتمعات لن يساند المقاومة الفلسطينية وقضية فلسطين.
في هذه الحالة، يجب أن نقول إن المستعمرين قد نجحوا في تحييد أو التحكم في جزء من قدرات وإمكانات هذه المجتمعات لصالح أهدافهم الاستعمارية، وقد تمكنوا من ذلك إلى حد معين. إذا نظرنا إلى التاريخ، نرى أنه خلال الحروب الصليبية، كانت منطقة الشرق الأوسط أو بلاد الإسلام بأكملها موحدة في مواجهة الصليبيين الغربيين، ولم يكن هناك أي فرد أو قومية أو مجموعة تعتقد أنه لا ينبغي القتال ضد الغزاة الصليبيين.
لكن مع ثورة الشباب العثماني عام 1908، عندما نجحت لجنة “الاتحاد والترقي” في إجبار السلطان عبد الحميد الثاني على تغيير الدستور وإعادة فتح البرلمان، الذي كان بداية السياسة متعددة الأحزاب داخل الدولة، تغير وجه المنطقة. مع دخول العلمانية والأفكار الاستعمارية إلى المنطقة، بدأت المنطقة بأكملها تتحول تدريجيًا من حالة الوحدة الفكرية إلى حالة التناقض الفكري والتفرق.
اليوم، على عكس فترة الحروب الصليبية، لم تعد الشعوب التي تعيش في المنطقة، والمسلمون في العالم بشكل عام، يتبعون فكرًا موحدًا. مع انهيار الدولة العثمانية، لم يقتصر الأمر على التغيير في الجغرافيا السياسية للمنطقة بإنشاء دول جديدة، بل أصبحت جميع دول المنطقة تواجه ظاهرة خطيرة وهي “دولة متعددة الأمم”.
في جميع دول المنطقة، تنقسم المجتمعات إلى أمتين: الأمة المسلمة والأمة العلمانية. الآن، تواجه جميع دول المنطقة مجتمعين متضادين؛ أحدهما يطالب بتدمير إسرائيل والاستعمار، والآخر من المجتمع يعارض تدمير إسرائيل. في هذا الشأن، يجب الاعتراف والإقرار بأن الاستعمار قد نجح في تحييد والسيطرة على جزء من قدرات وإمكانات مجتمعات الشرق الأدنى والمسلمين في جميع أنحاء العالم خلافًا للحروب الصليبية، وقد حول أيضًا جزءًا منها إلى مزدورين وعبيد للاستعمار.
لكن هذه صناعة المصطلحات وإسقاطها على المجتمعات المختلفة تمر بعملية خاصة. ما هو مهم جدًا ويجب التطرق إليه هو أن النظام العالمي الحالي بُني على يد الاستعمار الغربي بعد الفوز في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ربما عندما نتحدث عن النظام العالمي، يكون ذلك غامضًا للبعض؛ فما معناه؟ يجب القول إن النظام العالمي يعني القوانين والعلاقات التي بُنيت بعد الحربين العالميتين وفقًا لأهداف أطراف الحرب المنتصرة. على سبيل المثال، يجب ذكر قوانين الدوليّة أو رسم حدود سايكس-بيكو في الشرق الأوسط بواسطة الاستعمار.
وجزء آخر من النظام العالمي تتكون منه المنظمات والمؤسسات الدولية أو الإقليمية أو العابرة للأقاليم مثل الأمم المتحدة (أي اقرأ: منظمة الدول الاستعمارية) والاتحادات الرياضية العالمية مثل فيفا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات ومؤسسات أخرى تأسست تحت نفس الأهداف والقوانين الاستعمارية الدولية.
على سبيل المثال، اللجنة الأولمبية الدولية، التي تُعد إحدى هذه الأدوات الاستعمارية، تحرم الرياضيين الروس من المشاركة في مسابقات الأولمبياد بسبب هجوم روسيا على الناتو في أوكرانيا، بينما لا تحرم أي منظمة أو مؤسسة دولية أو أوروبية الرياضيين الإسرائيليين من المشاركة في أي مسابقة.
الآن المسألة هي أن اصطلاحات السياسة مثل اعتبار مقاومة فلسطين إرهاباً واعتبار مناضلي فلسطين إرهابيين، والتي هي موضوع نقاشنا، تقع في إطار هذا النظام العالمي الاستعماري وتُنشأ بواسطة المؤسسات والمنظمات الاستعمارية. كما قلنا، جزء من هذا النظام العالمي يتألف من قوانين الدوليّة. يسعى النظام العالمي الاستعماري، من خلال إقرار قوانين في المؤسسة الاستعمارية الدولية، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واعتماد عقوبات ضد الجماعات السياسية والعسكرية المناهضة للاستعمار تحت عناوين مثل “مكافحة الإرهاب”، إلى الضغط على هذه الجماعات والدول الداعمة لها. كما أن أدوات الدعاية، بأساليب مختلفة مثل إقرار القوانين وممارسة ضغوط متنوعة من قبل المؤسسات والمنظمات المختلفة وفرض عقوبات تأديبية، تقع في متناول النظام العالمي الاستعماري، وهو ما نمتنع عن شرحه وتوضيحه هنا.
ولكن لماذا تناولت هذا الموضوع؟
السبب في تناول هذا الموضوع هو مقال جيد جداً بعنوان “هل المقاومة الفلسطينية إرهابٌ؟” الذي كتبه الدكتور فائز أبوشمالة. في هذا المقال، يشرح الدكتور أبو شمالة بشكل جيد السياسة الاستعمارية للغرب وإسرائيل، وكيف أنها تُفسد مقاومة فلسطين وتطلق عليها اسم الإرهاب، وتعمل على نشر ذلك في الأذهان العامة ساعية إلى شَنّ إبادة جماعية هائلة ضد الفلسطينيين تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”. كتب الدكتور أبو شمالة في هذا الموضوع بشكل صحيح:
“يكرر العدو الإسرائيلي صباح مساء بأنه يحارب الإرهاب الفلسطيني في قطاع غزة، ويسوّق هذا المفهوم للرأي العام العالمي، ليحظى بشرعية عدوانه على أطفال غزة، وليبرر استخدام ما لديه من أسلحة أمريكية فتاكة ضد المدنيين الفلسطينيين.
قبل ستين سنة، كان العدو الإسرائيلي يصف المقاومة الفلسطينية بالعمل التخريبي، ويصف رجال المقاومة بالمخربين، ووجدت تلك التسمية الخبيثة سوقاً لها في العالم الغربي، على افتراض أن “إسرائيل” دولة معترف بها في الأمم المتحدة، وهؤلاء المخربون الفلسطينيون يهدفون إلى تقويض أركان الدولة الناشئة، ولا يفهمون لغة السلام، وليس لهم أية حقوق سياسية، ولا مظلومية إنسانية لهم.
وظلت المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي الفلسطيني الرافض للاحتلال الإسرائيلي موصوفاً بالتخريب حتى ظهر مصطلح الإرهاب الدولي الذي اعتمدته أمريكا، مع كل عدوان على الشعوب الإسلامية والعربية، ليعتمد العدو الإسرائيلي هذا المصطلح “الإرهاب” في خطابه الإعلامي، في محاولة منه لتبرير عدوانه الوحشي ضد الفلسطينيين، ولتبرئة جيشه وسلاحه من تهمة حرب الإبادة والتطهير العرقي”
الدكتور أبوشمالة يتوصل بشكل واقعي تماماً إلى أن النضال المسلح هو حق و واجب لكل فلسطيني للدفاع عن حقوقه وكرامته في مواجهة تجاوزات إسرائيل. وقد كتب في هذا الشأن:
“العدو الذي يتمنى الموت لكل العرب إرهابي، والفلسطيني الذي يدافع عن أرضه، وحقه في الحياة مقاوم حرية، وطالب عدالة، وصاحب حق دونه تهون التضحيات، وهذه الحقائق يجب أن يدركها بعض الفلسطينيين المرتبطين بقوى داخلية وخارجية معادية للشعب الفلسطينية، ومعادية لمقاومته، فانطلقوا يصرخون في زوايا غزة، حماس إرهابية.
عموم الشعب الفلسطيني يدرك جيداً أن الفلسطيني الذي يتهم حماس بالإرهاب، يبرئ العدو الإسرائيلي من الإرهاب، ويبرئ العدو من دم خمسين ألف شهيد، ذبحتهم السكين الإسرائيلية أمام وسائل الإعلام، ويعطي مصداقية للرواية الإسرائيلية الكاذبة عن براءته من دم الفلسطينيين، وانه يستهدف الإرهاب فقط”
ولكني أريد، مع تأكيد كل ما كتبه الدكتور أبو شمالة بحق في مقاله، أن أوضح نقطةً وهي طريقة النضال. كما قلت، فإن كل هذه الجرائم وصناعة المصطلحات السياسية ضد مقاومة الأمم تنجم عن النظام العالمي الاستعماري، وبناءً عليه، طالما أن مثل هذا العدو وجيشه النيابي، أي إسرائيل، موجود، فإن صناعة المصطلحات السياسية والمؤامرات والفتن والجرائم ستستمر.
ما ينبغي عمله هو، على نطاق واسع، إبادة النظام العالمي الاستعماري، وعلى نطاق ضيق، إبادة كاملة للدولة المؤقتة لإسرائيل وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
يجب ألا تقاتل جماعات المقاومة الفلسطينية وغيرها من جماعات المقاومة مثل حزب الله واليمنيين وغيرها من الجماعات ضمن أطر هذا النظام العالمي الاستعماري مع الاستعمار ونسله الحرام، بل يجب على جماعات المقاومة أن تغير قواعد اللعبة.
إذا أردت أن أعطي مثلاً في هذا الشأن، ستصبح القضية واضحة تماماً. تستطيع إسرائيل، بدعم من النظام العالمي الاستعماري، أن تقتل الأطفال وغير المقاتلين وتكون مطمئنة بأنها لن تُعاقب عملياً من قبل المؤسسات الدولية، بل يصدر بحقها في أقصى حد بيان أو قرار ضدها لا يحتوي على ضمان للتنفيذ.
لكن إذا أراد الفلسطينيون أو اليمنيون أو حزب الله مهاجمة المناطق السكنية للإسرائيليين وإلحاق خسائر بشرية بالإسرائيليين، فسيتعرضون للإدانات والدعايات الشديدة مثل وصفهم بالإرهابي والمخرب والمجرم.
المسألة، وبالطبع الحل، هو أن مقاومة فلسطين وحزب الله واليمنيين وغيرها من جماعات المقاومة يجب أن تتخلى عن قواعد وقوانين اللعبة التي وضعها الاستعمار وحددها، وأن تُعرّف هي بنفسها القواعد والقوانين وفقاً لحقوقها وواجباتها وتعمل بموجبها.
يجب أن يهاجم محور المقاومة مراكز سكن المحتلين بشكل مباشر ودون تسامح.
يجب أن يكون هدف ومقصد محور المقاومة هو إبادة إسرائيل، ولكي يتحقق هذا الهدف يجب تفجير مخازن المياه ومحطات توليد الكهرباء ومنصات النفط وخطوط أنابيب الغاز في إسرائيل.
أكبر خطأ يرتكبه محور المقاومة هو أنه يريد محاربة الاستعمار والفوز عليه من خلال الالتزام بقوانين النظام العالمي الاستعماري، إذ إن القوانين والقواعد الخاصة بالنظام الاستعماري مصاغة بطريقة لا تسمح له بالهزيمة.
وبناءً عليه، لكي يُهزم الاستعمار يجب محاربته خارج نطاق القوانين والقواعد التي صممها الاستعمار، وهذا ما لم يستطع محور المقاومة حتى الآن اتخاذ قرارٍ فيه وظل متردداً.
*كاتب ومحلل ايراني