الجمعة , يونيو 20 2025
أخبار عاجلة
الرئيسية / اراء / إسرائيل والسلام الموهوم!

إسرائيل والسلام الموهوم!

د. طالب أبو شرار*
السلام في معناه الشامل هو الحالة التي تختفي فيها مظاهر العداوة بين الأمم ويسود فيها الوئام وتنشط فيها حركة الأفراد التبادلية وتزدهر عمليات الانسياب السلس للنشاطات الاقتصادية والفكرية والثقافية وتؤسس فيها المشاريع الاستثمارية متبادلة النفع. من الواضح هنا استحالة بناء سلام حقيقي في الحالات التي يشعر فيها طرف أنه مظلوم وأن حقوقه مهضومة. بمعنى أكثر وضوحا، يستحيل بناء سلام مستدام في حالات انتزاع حقوق طرف وتجييرها لصالح طرف آخر. قد تعقد معاهدات “سلام” بين مثل تلك الأطراف لكنها تكون في جوهرها معاهدات استسلام يفرضها القوي على الضعيف بل ويفرض لها اسما يخدم مصالحه وأهواءه. في التاريخ الإنساني أمثلة كثيرة على تلك الشاكلة خاصة تلك التي يزعم فيها طرف انه عقد سلاما مع الطرف الآخر لكنه يكون في واقع الحال استسلاما مهينا. على سبيل المثال، انتهت الحرب العالمية الأولى بثلاثة شروط هي نزع سلاح الدول المهزومة وفرض تعويضات عليها وانتزاع بعض أراضيها لصالح الأطراف المنتصرة. بالنسبة لألمانيا، فرض عليها المنتصرون اتفاقية فيرسال (Versailles) في 28 حزيران 1918 والتي نصت على تحديد عديد الجيش الألماني بمئة ألف جندي وامتلاكه فقط ست سفن حربية لا أكثر وحظر سلاح الجو. بالإضافة لذلك، فرض المنتصرون على ألمانيا تعويضات مقدارها ستة ملايين وستمائة ألف جنيه إسترليني ونزعوا منها منطقتا بوسن (Posen) وشرق بروسيا لصالح بولندا ومنطقة الإلزاس واللورين (Alsace-Lorraine) لصالح فرنسا. كما فرضت تلك الدول على كلٍ من النمسا والمجر وبلغاريا عقوبات لا مجال لسردها إذ يهمنا هنا العقوبات التي فرضت على الإمبراطورية العثمانية والتي شملت الاكتفاء بجيش صغير قوامه خمسون ألف جندي وأسطول بحري صغير يتألف من سبع سفن وستة قوارب طوربيد وحظر كامل لامتلاك سلاحٍ جوي. بالنسبة للاقتصاد، قرر المنتصرون إدارته بأنفسهم أي السيطرة عليه ونهبه. المهم أيضا هو الأراضي التي خسرتها الإمبراطورية العثمانية وتمثلت باحتلالٍ بريطاني للعراق وفلسطين وآخر فرنسي لسوريا (وكان لبنان جزءا منها) كما وضع مضيق الدردنيل تحت إشراف دولي ومُنحت أرمينيا العثمانية الاستقلال. وعلى نقيض الحالة العربية، كان من الواضح أن مثل تلك الشروط المجحفة بحق ألمانيا لن تدوم وهو ما حدث لاحقا وفي وقت قياسي إذ انتفضت ألمانيا ودخلت في سباق مع الزمن للثأر من خصومها فيما عُرف لاحقا بالحرب العالمية الثانية.
على الصعيد العربي وفي كافة خطاباتهم، يزعم قادة العدو الصهيوني أن هدفهم المنشود هو صنع السلام مع العرب. لكن وعندما يبدي طرف عربي استعداده للدخول في مثل ذلك السلام، تبدأ الإملاءات “الإسرائيلية” الهادفة الى ابتزاز أكبر قدر من التنازلات، كلها بحجة ضمان أمن ذلك الكيان. وفي مثل تلك الحالات، يتوجب على الطرف العربي العاجز نسبيا أن يتنازل ويتنازل ثم يتنازل مجددا لأن الخوف الإسرائيلي، حسب ادعائهم، هو خوف مشروع! في النهاية يصل الطرفان الى صفقة تسمى في ظاهرها سلاما لكنها في جوهرها قبول باحتلال ممنهج لكل مقدرات ذلك الطرف العربي. في مثل تلك الاتفاقيات تفرض شروط على الطرف العربي تقيد حرية حركته وتسليحه، خاصة في المناطق الحدودية، وتفرض عليه قيودا اقتصادية وتبادلا تجاريا وثقافيا وانضباطا إعلاميا وتعليميا وحرية زيارة “الإسرائيليين” لمعالم ذلك البلد بحجة السياحة والتناغم الإنساني. باختصار، هي علاقة نفعية للطرف “الإسرائيلي” وتجسيد لهيمنته على الطرف العربي. هي في الحقيقة خسارة ومهانة كبرى للطرف العربي فالصهاينة لن يتنكروا أبدا لمشروع تيودور هرتسل في أرض إسرائيل من النيل الى الفرات ومن الخليج الى شاطئ البحر المتوسط! تعود الأسباب وراء كل ذلك الخذلان الى ذهاب الطرف العربي الى ساحة التفاوض بلا مخالب وبلا أنياب وبلا أسلحة مساندة كما أن مجرد قبوله بخيار المفاوضات هو إذعان يحمل في طياته إقرارا بقبول واقع الحال وبنسيان تاريخ “إسرائيل´ الحافل بالمجازر وبمئات الألاف من الشهداء الأبرياء إضافة الى الخراب المادي الذي أحاق بالجميع على أيدي أولئك الغزاة. ما يعنيه كل ما سبق هو إقرار منا بأن المذابح ونهب الممتلكات والجرائم العنصرية الصهيونية بحق الإنسان العربي عبر تاريخ الغزو الصهيوني لم تكن سوى أفعال حربية لا تستوجب المساءلة القانونية والجزائية. لقد شجع مثلُ ذلك الهوان الطرفَ الصهيوني ليس فقط على نكران الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في وطنه الذي أسس الصهاينة على ترابه دولتهم المزعومة ونهبوا كل منشأته الحضارية والعمرانية والاقتصادية. لقد حفزهم كل ذلك الهوان على المطالبة بحقوق يهود البلاد العربية التي زعموا أنهم أجبروا على هجرها وتركها وراء ظهورهم نهبا للعرب بعد قيام دولتهم فطالبوا بتعويضات عن عقارات ومصالح تجارية وصناعية تركوها هناك. هي إذن تعويضات مقابل تعويضات دون أن يتساءل أحد كيف نرضى باغتصاب اليهود القادمين من كافة أصقاع العالم للمدن الفلسطينية العريقة التي يمتد تاريخ عمرانها لألاف السنين قبل أن يطفو ذكر اليهود على السطح؟ وهل يمكن التغاضي عن مثل ذلك النهب المفضوح لحقوق شعب مغلوب على أمره! مثلا، ما هو حق اليهودي الأجنبي مقطوع الجذر في فلسطين في ملكية موانئ فلسطين ومؤسساتها العمرانية والتراثية كأسوار القدس والمسجد الإبراهيمي في الخليل وسكك الحديد والموانئ العامرة؟ هل ساهم يهودي واحد في عمران تلك المنشآت؟ كيف إذن يوافق الطرف العربي على تملكهم ما ليس من حقهم؟ إنه نهب في رابعة النهار!
والآن إذا عدنا الى مفهوم السلام المزعوم، لا يكتفي الصهاينة بكل ما نهبوه بل يطالبون بالمزيد والمزيد فهناك ما هو أثمن كثيرا من كل ما وضعوا أياديهم عليه، هو كافة مقدرات المنطقة العربية والإسلامية! ولكي ندرك حجم جشعهم يجب أن نفهم طبيعة الحلف الصهيوني-الغربي والذي وضع خطوطه العريضة ثيودور هر تسل في سعيه لكسب التأييد الغربي لمشروعه الاستيطاني إذ عبر عنه بوضوح عند لقائه القيصر الألماني فيلهلم الثاني في الأستانة عام 1898 إذ قال “ستكون دولتنا تحت الحماية الألمانية. الحركة الصهيونية مستعدة لإخراج عناصر الشغب من فقراء يهود أوروبا وتوطينهم في المحمية الفلسطينية كي يتم ابعادهم عن الأحزاب الاشتراكية والنشاط الثوري بشكل عام. وأضاف، ان الحركة الصهيونية ستكون عونًا لألمانيا في امتدادها الاستعماري صوب الشرق. وحينما استفسر القيصر عن مساحة وحدود الأرض التي تطالب بها الحركة الصهيونية كي ينقلها لمسامع السلطان العثماني اثناء لقائهما المرتقب، أجاب هرتزل ستكون محميتنا في البداية في فلسطين بحدودها الجغرافية الحالية أما بالنسبة للحدود النهائية للدولة اليهودية فإنها ستمتد تدريجيا لتشمل المنطقة الواقعة بين نهري النيل والفرات متضمنة المنطقة الواقعة شمال غرب شبه الجزيرة العربية بما فيها نافذة على الخليج.
ad
من الوضح هنا أن أهداف الحركة الصهيونية مازالت كما هي مجسدةً بلحظةِ إعلان المجرم دافيد بن جورين عن إقامة دولة “إسرائيل” في العام 1948. في تلك اللحظة كان بن جوريون واقفاً تحت صورة كبيرة لثيودورهرتسل ذاك وفي ذلك معانٍ لا تخفى على أحد. بعد كل تلك الفترة، لا يريد الصهاينة رؤية التحولات العالمية والإقليمية المستجدة لأنها تجري لغير مصلحتهم ويحاولون بأساليب وحشية وإجرامية تثبيت واقع الصراع بأبعادِهِ الفلسطينية والشعبية العربية والعالمية كما كان منذ عقود. حالهم في ذلك كمن يناطح الريح العاصفة ويجذف عكس التيار. لقد شهد العالم منذ ذلك التاريخ تحولات جذرية إذ غربت شمس بريطانيا، الإمبراطورية التي ما كانت الشمس لتغرب عن ممتلكاتها. وها هي خليفتها الولايات المتحدة تترنح أمام تحديات عالمية كبرى، فالصين تصعد بثباتٍ لتتبوأ رأسَ هرمِ القوة والاقتصاد العالمي مدعومةً بقوى كبرى أو صاعدة في منظومة بريكس+. الأهم من كل هذا وذاك هو التحول المنطقي والموضوعي في رؤية الولايات المتحدة (وحليفاتها في أوروبا الغربية) للكيفية والأدوات التي يتوجب أن تدير بها مصالحها في منطقة الشرق الأوسط في ظل مثل هذا التحول وبعيدا عن البلطجة “الإسرائيلية”. لم تعد رؤية هرتسل الذيلية ذات بال هذه الأيام فالمنطقة العربية شهدت تحولات جذرية سكانية ومجتمعية واقتصادية وثقافية تجعل من المستحيل ديمومة أهداف الدعم الغربي للكيان الصهيوني ثابتة على حالها. لقد تغيرت طبيعة الثروات، خاصة النفط، الذي كان همَ الغرب قبل عقود إذ يتحول العالم نحو الطاقة النظيفة كطاقة الشمس والرياح بل والطاقة النووية وتستبدل وسائل النقل والمواصلات العاملة بالوقود الأحفوري الى أخرى تعمل بالكهرباء وأصبحت ثورة التقنيات الإليكترونية الحديثة مصدر ثراء لا تضاهيه مصادر أخرى. وبنفس السياق، تتحول المجتمعات العربية الى مجتمعات استهلاكية معاصرة يهتم بأسواقها صانعو القرارات السياسية في الدول المزدهرة اقتصاديا. باختصار، لم يعد النفط مصدر الجذب الوحيد هذه الأيام فهناك شعوب يتوجب إرضاؤها كي تفتح أمام منتجاته أسواق استهلاكية كبرى. وبالتالي، يجري تحجيم دور إسرائيل “ككلب حراسة” يخدم المصالح الغربية وها هو نباحه يخبو في وجه التحول التدريجي نحو بناء علاقات منافع ومصالح متبادلة بين العرب والولايات المتحدة. في الماضي، كانت تفاهمات فردية كفيلةً بترتيب الأمور العالقة بين الغرب والعرب لكن هذه الأيام لم يعد ذلك ممكنا وإن حدث فإنه سيكون مُولِدا لمساءلاتٍ وضغوطات شعبية يدركها الغربيون كما المعنيون في بلادنا فيحاولون تجنبها قدر المستطاع. قد يبدو هذا الكلام مفرطا في التفاؤل لكني أراه ممكنا بعد الفشل الصهيوني في لجم قوى التمرد الشعبية على الهيمنة الغربية-الصهيونية لما فيه من استفزاز لمشاعر ملايين من العرب والمسلمين إضافة الى عجز الولايات المتحدة عن فرض إرادتها بالقوة على الحركات الشعبية في بلادنا كما نشاهد هذه الأيام فالحرب الممتدة لأكثر من عام ونصف على قطاع غزة لم تنته بعد رغم أنها لم تكن حربا بين جيوش كما في السابق. بل إن قوة غير حكومية في اليمن عطلت أهم طريق ملاحي في العالم وفرضت حصارا بحريا على الكيان الصهيوني استدعى تدخل الولايات المتحدة ثم انكفاؤها هذه الأيام دون تحقيق نصر حاسم. وعلى نقيض هذا المشهد الصارخ، لم تزل النظرة الصهيونية المتغطرسة والمشدودة الى القوى الغربية جامدة على حالها ودون تحول في الأساليب وفي الأهداف يتناغم مع التحولات في الوعي والتأثير الشعبي العربي والدولي. ما يزال قادة الكيان الصهيوني يتحدثون عن أحلامهم الإمبراطورية في تغيير وجه الشرق الأوسط وفرض الهيمنة الاستعمارية على مقدراتنا. يمكن فهم الجمود في الرؤية الصهيونية بأن إكسير الحياة التي تتغذى به تلك الحركة يعتمد بالمقام الأول على القهر والإذلال لضمان ما يسمونه عامل “الردع”. من الواضح هنا أن “إسرائيل” لم تُختَلق لتكون دولة ً طبيعية في المنطقة بل لتكون سيفا مصلتا على الرقاب وحارسا أمينا لمصالح الغرب الاستعمارية التي اختلفت أشكالها هذه الأيام. بالنسبة لهم، ما يعنيه التخلي عن قوة “الردع” هو وصفة لفناء الدولة الصهيونية. لقد أنتج الصمود الفلسطيني في غزة هذا المناخ الذي كان مغيبا تماما قبل لطمة الطوفان. لذلك، كان لا بد لمثل هذا الانفصام بين الماضي والحاضر أن يولد تنافرا بينيا في المجتمع الصهيوني لاختلاف الرؤى بين صانعي القرار والتي تنتج ضغوطا داخلية الى الحد الذي باتت أحاديث “الحرب الأهلية” يتردد صداها في النقاشات الصهيونية حول أساليب ومألات الأمور في معركة غزة الممتدة زمنيا والمتشعبة جغرافيا وباهظة الثمن. غزة هي التي عصفت بالمياه الراكدة وهي التي أيقظت الوعي الإنساني بالطبيعة العنصرية والاستعمارية للحركة الصهيونية وهي التي أشعلت سلسلة المواجهات الدامية على مساحة كبيرة من العالم العربي والإسلامي والتي يبدو أنها لن تتوقف حتى تصل مداها.
*كاتب ومفكر عربي

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

إسرائيل تحرّف مسار الحرب لتغطية مجازرها في غزة!

د. أروى الشاعر* بينما تتسابق عناوين الأخبار في تتبع التوترات الإقليمية والهجوم الوحشي على ايران، …