علي الزعتري*
ماذا تفعل “إسرائيل” لكل عدوٍّ تعتبرهُ محتملاً وحقيقياً؟ تدمره! أو بالأقل تدفعه سنين وعقود للوراء تقنياً وتعليمياً وبناءً بشرياً و علمياً. هذا ما فعلته في مصر والعراق حينما استهدفت العلماء داخل وخارج البلدين منذ الخمسينات في مصر وفي العراق تحديداً عبر القرنين العشرين والواحد وعشرين. وفي سوريا كلما أرادت دون اعتبارٍ لهوية نظام الحكم وتحالفاته. لقد قضت على مشروعي المفاعل النووي بالعراق وسوريا بالقصف المباشر ثم تبعت ذلك بتصيد العلماء. وما تفعله بالفلسطيني من وزنِ المُزارع في حقلهِ و لمرتبةِ العالم الناشط في بلده وفي بلاد الشتات هو القضاء على نواة وثمار النماء الفلسطيني. وما فعلته وتفعله في إيران من استهدافٍ متمكنٍ للعلماء ليس له سوى هدف وقف المشروع الإيراني. ليس عليها فقط تدمير البُنى التحتية الهامة وتدمير المعنويات و تهجير المواطن من مناطق الخطر بل إرجاع المخزون العلمي للبلد المستهدف سنوات طويلة عندما تقتل العلماء والأكاديميين الذين يصعب تعويضهم. وهي تقتل في الفلسطينيين تحديداً، علاوةً على الفئة العالمة، ذلك الجيل الناشئ من أعمار الطفولة فتقضي بذلك على الفرصِ التي تنظر لها الشعوب عبر أطفالها وشبابها. في المعلومات المُتاحة من مصادر مفتوحةٍ متعددة ضمت قوائم الاغتيال بحق العلماء العرب والإيرانيين من كل صنوف العلم أعداداً كبيرةً. في غزة لوحدها منذ أكتوبر ٢٠٢٣ قتلت “إسرائيل” أكثر من ٨٠٠ تربوياً و ١٥٠ عالماً أكاديمياً مرموقاً و ٢٢٠ صحافياً، عدا عن آلاف الأطفال التلاميذ، نواة الجيل القادم الذي صار تحت الثرى. و منذ الخمسينات اغتالت “إسرائيل” ما بين ٦٠ و٧٠ عالماً عربياً و إيرانياً متخصصين في العلوم البحثية والتطبيقية والهندسية مخترقةً لتفعل ذلك مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والسعودية وإيران. تفعل “إسرائيل” كل هذا القتل غير متراجعةً عن إرهابها المبرمج ولا معنيةً بعَالَمٍ يعترضُ بعضه ويوافق ثَرِّيًهُ ويُغمض عيونه أكثره. إنها الإبادة والاستعباد. لا شيء غيرهما يُعْنوَنُ الهدف أمريكياً وصهيونياً لحياتنا ببلادنا إن رفضنا أو قبلنا. إنها عندما تمارس الإبادة العلمية، وترضى بهذه الممارسة أمريكا وأوروپا وأستراليا وحتى نيوزيلندا والأذناب من سياسيي أمريكا الجنوبية وكثيرٌ من العرب والمسلمين، ترسم خطوط التطور لنا ضمن حدود تقييدٍ صارمةٍ بحيث لا نهددها بأي وسيلة. هؤلاء العلماء والطلبة و الصحفيين و الأطباء المقتولين غدراً وعمداً ليسوا للصهاينة ومن يحالفها بشراً بل هم نوايا عدوةً لتغييرٍ بنيويٍّ ضدها لذا يجب القضاء عليهم قبل نضوجهم. “إسرائيل” تفعل هذا لمصلحتها المباشرة و لمصلحة الغرب غير المباشرة. و ما كان تصريح المستشار الألماني إلا تعبيراً عن هذه الحقيقة عندما أفصحَ أن “إسرائيل” تقوم بالعمل القذر نيابةً عنهم. كما أنها النظرة العنصرية الدونية التي يطالعنا بها الغرب بالوعي الواضح والمختفي. نحن لهم وعندهم مجرد خدماتٍ ومنافع لا يجوز لنا أن نأمل بمواقع غيرها.
لم تمر ساعات منذ بدأت هذه المقالة حتى قامت أمريكا بتوجيه ضرباتها في إيران وهي بهذا العمل المتوقع لم تحد عن دعمها عن نظرتها المبدئية المتعالية ودعمها للصهيونيةً. سلَّمتْ أمريكا لليوم ما يزيد عن حمولة ٨٠٠ طائرةَ نقل عسكري عملاقة تحتوي السلاح والذخيرة لدعم “إسرائيل” في حروب الإبادة و تقوم وسائلها التجسسية بمسح غزة وجنوب لبنان وأعطت ما حصلت عليه “لإسرائيل”. وأرسلت أساطيلها التي هاجمت اليمن بلا هوادة تحطم الموانئ والمطار و تحرق الوديان و الجبال ولا تُبالي بمدنيين ولا منشآتٍ مدنيةٍ ولا حتى حُجَّاجاً كانوا على مدرج المطار آمِّينَ البيت الحرام و نجوا من القصف بأعجوبة. إنها أمريكا التي في عهد ترمپ الأول ألغت الاتفاق الذي أبرمَهُ باراك أوباما والاوروپيين مع إيران وباركه العالم ثم اغتالت سليمان قاسمي في مطارِ بغداد دون اعتبارٍ لسيادة دولة ولا لحياةِ مسؤولٍ بدولةٍ. لا يفعل هذا سوى مارقٍ. و هي أمريكا التي لم تتوقف للحظةٍ واحدةٍ، بالتعاون مع دولٍ في أوروپا و”إسرائيل”، قبل الاتفاق وبعد إلغاءه عن تنفيذ العمليات القذرة في إيران لاغتيال العلماء وتدمير المنشآت من الداخل بوسائل استلالية مباشرة وإلكترونية. هي أمريكا التي شكرت “إسرائيل” لتمهيدها للضربة الأمريكية الأخيرة ومنحت رئيس وزراءها النتن حق متابعة الهجوم الأمريكي بالغواصات والقاذفات لحظةً بلحظةٍ من مخبأهِ المحصَّن بفلسطين السليبة، وكانّها لم تشترك في الهجوم الصهيوني على إيران منذ بدايته، قبل عقدين على الأقل، بالمناسبة وليس فقط منذ أسبوعين.
لكن ماذا بعد؟ يبدو العالم مستقوياً ضد الضحايا و متساكناً مع المجرمين. مطالبهم واضحة. تفكيك إيران وتسليمها للعائلة البهلوية التي لم يتوانَ وريثها من ارتداء القبعة اليهودية والتباكي عند حائط البراق في مشهدٍ ذليل. أما في غزة فهو التهويد عرقياً والإستثمار بعدها سياحةً واقتصاداً، هذا بعد رمي أهلها للصحاري والمنافي. وليرضى كل وطنيٍّ عربي مهما كان دينه و أصله بالوصفة الأمريكية والمطرقة الصهيونية الضاربة يومياً و ينحني للصفوةِ العربية التي تعرف كيف تتكلم وتتمايز مع الغرب. ولتصمت كل مقاومة وليقتنع كل العرب مهما اختلفت جنسياتهم وديانتهم وطوائفهم بالترويض الذاتي الذي ستعالجه القوى المهيمنة بالسوط إن احتاج الأمر وحاول أحدهم الاعتراض. هذا هو ملخص إجابة ماذا بعد لو اختفى من حياتنا الحس والفعل المقاوم من توقف مقاطعةِ “البيبسي” و لمستوى تحطيم تقنيات الصاروخ المقاوم صغيراً أم عابراً. في الأثناء يعلن ترمپ وقفاً لإطلاق النار بين إيران و”إسرائيل” و ذلك بعد ضربة “العديد” المُنسقة، بمهارةٍ إن أردت، لصالح أمريكا أو لصالح إيران، حسبما تميل في التحليل وموقفك من إيران. ترمپ يعتقد جازماً أنه انتصر وأن ظَهْرَ إيران النووي انكسر ولن يعود، وإيران جازمةٌ أنها لم تُهزم طالما صواريخها تطير ويورانيومها المخصَّب مخفي ولديها بعد مخزون علم وعلماء، و النتن فَرِحٌ أنه عَطَّلَ إيران لسنوات وعقودٍ وأثار فيها نزاع الداخل و طموح إسقاط الجمهورية. وسيلتفت الآن بكل شهوة القتل لفلسطين غزة والداخل لمواصلة التصفية والتهجير والتدجين. لكن كل هذا لا يعني أن ميزان القتال ووقفه مُستقِّرٌ بل الواقع أنه مُختَلٌّ عند الجميع لاعتقاد كل طرف بما يريد أن يؤمن به و سيستمر بممارسته. أما المقاطعة و المقاومة فلن تنهار لكنها بالتأكيد ستضعف والسؤال هو عن نقطة الضعف التي ستصلها لتكُفَّ “إسرائيل” عن صريحِ ضربها لها أينما كانت. أو ما هي نقطة التعافي التي ستصلها المقاومة مما قد يُشعِلَ القتال والاغتيال الصريح على أَوْجِهِ. أنا لا أظن للحظةٍ واحدةٍ أن سياسة الصهيونية ستتغير فهي ستضرب كلما ومتى وأينما أرادت، ما دام هناك همس مقاومة، والغرب سيؤازرهاً ولو حَمَلَ المقاوم إبْرَةً بوجه المحتل.
الخلاصة أنهُ ستفعل “إسرائيل” ما فتأت تعمل منذ بدايتها الصهيونية في القرن التاسع عشر: تخطط، تبني، تتوسع، تحتل وتقتل وتقتل وتقتل. هي تعتقد بالشرق الأوسط الجديد التابع لها ولن يهدأ لها بال إلا بتحقيقه. وسيواصل الغرب حمايته لها فهي الضمانة لإبقاء هذه الأمة مهددة وخائفة وخاسرةً، و سيسعى الغرب لاستغفالنا بكل وسيلةٍ لتحويرنا لنسخٍ مشوهةً منه في كل شؤون حياتنا الدنيوية والدينية وامتصاص الثروات والأموال بكل طريقةٍ ممكنةٍ وسيجد فينا من سيفعل له ما يريد. و سيبقى من يقاوم منا من أجل فلسطين والقدس ما دام فينا حياة، بالقلب واللسان واليد، بما استطاع. لكن أين دولنا وحكوماتنا من كل هذا؟ من كل فلسطين والقدس فهي الأساس. لا تسألوا إيران فهي فعلت ما فعلت كدولةٍ تدافع عن مصالحها بل اسألوا دولنا العربية فهي المجهول فيما تريد، فهل تصحو و تُجيب؟ أم أن سُباتها طويل؟
*كاتب اردني
