ناهد نجار*
أثار إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجئ بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران دهشة الأوساط السياسية والإعلامية.
فمن الوهلة الأولى، بدا هذا القرار غير متوقع، بل مربكا للبعض. غير أن المحللين العسكريين يدركون أن هذا التحرك يكشف فشلًا في تحقيق الهدف الاستراتيجي الحقيقي.
ad
فبينما روجت الحرب إعلاميًا على أنها مسعى لوقف القدرات النووية الإيرانية، كانت الحقيقة مغايرة؛ إذ إن الهدف الأساسي كان يتمثل دائما في إسقاط النظام الإيراني. لكن ومع تعثر الحملة العسكرية، وإخفاق الحرب الاستخباراتية في إثارة الفوضى الداخلية المطلوبة لإحداث تغيير في النظام، لم يعد أمام صناع القرار في أمريكا وإسرائيل سوى خيار وقف إطلاق النار، لالتقاط الأنفاس وإعادة التموضع.
فالتجارب السابقة تؤكد أن هدنة كهذه قد تكون أكثر خطورة من الحرب ذاتها — لا سيما عندما يكون الطرف المقابل هو تحالف يضم إسرائيل، والولايات المتحدة، وشبكة واسعة من الحلفاء والوكلاء حول العالم.
ورغم الهدوء الظاهري، فالمواجهة الحقيقية لم تنتهِ؛ بل يُتوقع أن تستمر بأشكال أكثر تعقيدًا وخفاءً، عبر أدوات الحرب غير التقليدية. ولا يحتاج المرء إلى البحث طويلًا في سجلات التاريخ ليدرك أن فشل المخططات الإسرائيلية والأمريكية كثيرا ما يتحول إلى عمليات سرية، وتخريب منظم، وحرب نفسية، مما يُنذر بمزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
ad
حرب الظل بعد هزيمة 2006
المثال الأوضح على ما تقدم هو ما حدث بعد حرب 2006، حين فشلت “إسرائيل” في تحقيق أهدافها خلال عدوانها على حزب الله في لبنان.
ورغم تفوقها العسكري، عجزت عن كسر إرادة المقاومة. صمود حزب الله حطّم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وكشف حدود القوة الغاشمة.
بعد تلك الهزيمة، غيّرت “إسرائيل” استراتيجيتها. ومع عجزها عن الانتصار في الحروب المفتوحة، لجأت إلى حرب الظل. وهكذا بدأت حرب جديدة: مرحلة حرب الاستخبارات.
تخلّت إسرائيل تدريجيًا عن المواجهات العسكرية المباشرة، وركّزت على العمليات الاستخباراتية، والهجمات السيبرانية، والاغتيالات، والتخريب، والحرب النفسية.
وكانت الأهداف واضحة: إضعاف حزب الله دون خوض حرب برّية مُكلفة، تقويض البرنامج النووي الإيراني والنفوذ الإقليمي لطهران، وتفكيك حركات المقاومة من الداخل وإغراقها في الفوضى والانقسامات.
ووسعت أذرع الاستخبارات الصهيونية — من “الموساد”، و”الشاباك”، إلى وحدة “8200” — من نشاطها في مختلف أنحاء المنطقة. استهدفت علماء، وقوافل سلاح، وشخصيات محورية مرتبطة بإيران وسوريا وحزب الله. كما كثّفت محاولاتها لاختراق الفصائل الفلسطينية وزرع الفتنة بينها، على أمل شلّ حركتها وتقويض صمودها من الداخل.
لم تكن حرب التجسس هذه مجرد جمعٍ للمعلومات، بل تحوّلت إلى أداة للضغط المستمر — حرب بلا خطوط مواجهة، ولكن بعواقب قاتلة.
من تفجيرات السيارات في دمشق إلى الهجمات السيبرانية على المنشآت النووية الإيرانية، ومن حملات التضليل الإعلامي إلى التعاون الوثيق مع وكالات أمريكية وأوروبية، حاولت إسرائيل” من خلالها أن تحقق سرًا ما عجزت عن تحقيقه في ساحة المعركة عام 2006.
لكن هذه الاستراتيجية ليست دون ثمن. فهي تعمّق التوترات، وتستفزّ ردود فعل، وتُبقي المنطقة أسيرة دوامات لا تنتهي من العنف وعدم الاستقرار.
وكما أظهرت الأحداث الأخيرة، فإن أعتى حروب التجسس وأكثرها تعقيدًا لا يمكن أن تجلب سلامًا وأمنا حقيقيًا ودائمًا.
واليوم، مع إدراك الصهيونية العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة أن عدوانهم على إيران لم يُثمر انتصارًا حاسمًا، علينا أن نتوقع تكرار السيناريو ذاته: مزيد من العمليات السرية، مزيد من التخريب داخل إيران، مزيد من المحاولات لتفكيك محور المقاومة من الداخل، ومزيد من الدعاية لتحويل الأنظار عن القضية الفلسطينية.
إنها نفس الاستراتيجية القديمة: حين تفشل القوة العسكرية، يلجؤون إلى التخريب والخداع.
كيف تُستخدم حرب التجسس ضد إيران؟
أمضت “إسرائيل” سنوات وعلى كل جبهة ممكنة في محاولة زعزعة استقرار لبنان لإضعاف حليف إيران الأقوى – حزب الله – ، بدعمٍ قوي من حلفائها. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية التي انطلقت منذ سنوات ستتسارع وتيرتها بعد فشل الحملات العسكرية المباشرة مع إيران. لكن كيف تعمل حرب التجسس فعليًا؟
الاغتيالات الموجّهة
اعتمدت “إسرائيل” مرارًا على الاغتيالات لإبطاء البرامج النووية والعسكرية الإيرانية. وتمكنت من قتل علماء، ومهندسين، وشخصيات عسكرية بارزة إيرانية — غالبًا داخل الأراضي الإيرانية.
ومن أبرز الأمثلة اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده عام 2020، في عملية نُسبت للموساد.
الهجمات السيبرانية
تُعد الحرب الإلكترونية سلاحًا أساسيًا في هذه المواجهة. فيروس “ستاكس نت” الذي طُوّر بالتعاون بين أميركا و”إسرائيل”، عطّل أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في إيران عام 2010. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الإيرانية، من المنشآت النووية إلى محطات الوقود، أداة متكررة.
التخريب والانفجارات الغامضة
ترتبط أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بسلسلة من الانفجارات الغامضة في مواقع عسكرية وصناعية إيرانية.
من حرائق في مستودعات صواريخ، إلى تفجيرات في منشآت نووية — تهدف هذه العمليات إلى تأخير التقدم الإيراني وبثّ الفوضى الداخلية.
تجنيد العملاء وتشغيلهم من الداخل
يسعى الموساد وأجهزته المتحالفة إلى التغلغل داخل المؤسسات العسكرية والعلمية والسياسية الإيرانية. الهدف هو العثور على متعاونين أو مخبرين يمكنهم تمرير المعلومات أو المساعدة في تنفيذ عمليات سرّية من الداخل.
دور أذربيجان الاستراتيجي
تؤدي أذربيجان، بحدودها الممتدة 689 كلم مع إيران، ودورها الغامض كشريك استراتيجي لتل أبيب، دورًا خطيرًا في حرب الظل.
تشير تقارير موثوق منها نشرتها صحيفة الديلي تلغراف البريطانية وذا تايمز أوف إسرائيل – إلى أن إسرائيل استخدمت باكو كمركز لوجستي واستخباراتي في عملياتها السرية ضد إيران.
وقد شملت هذه العمليات:
• تهريب الأسلحة والطائرات المسيّرة عبر البر والبحر، غالبًا مخبأة في حاويات شحن أو حقائب سفر.
• زرع فرق عمليات سرّية داخل إيران، تم تدريبها خارج البلاد.
• تنفيذ هجمات من داخل الأراضي الإيرانية، بما في ذلك من قاعدة طائرات مسيرة سرية قرب طهران استخدمت لتعطيل الدفاعات الجوية قبيل الضربات الكبرى.
الحرب النفسية وحملات التضليل
تُستخدم الحملات الإعلامية الموجّهة، وتسريبات الوثائق، وقصص مختلقة لتشويه صورة القيادة الإيرانية، وتأجيج الانقسام الداخلي، وخلق حالة من الغليان الشعبي. والهدف هو تقويض تماسك النظام من الداخل.
إثارة التوترات العرقية والطائفية
تسعى حرب التجسس أيضًا إلى استغلال التنوع العرقي داخل إيران. يتم تقديم الدعم السري للحركات الانفصالية أو المكونات العرقية مثل البلوش والأكراد والعرب، لزعزعة البلاد من الداخل.
مقاومة دون تصعيد مفتوح
في لحظة الهدوء الظاهري هذه، يجب ألا تنخدع إيران بسراب السلام، بل عليها أن ترى الحقيقة كما هي: حرب سرية مدروسة تهدف إلى زعزعة الاستقرار، وعزل الدولة، وإسقاط النظام من الداخل.
لكن إيران لا تحتاج أن تدخل في هذا السيناريو المرسوم لها. الردّ الصحيح ليس في الحرب المفتوحة، بل في المقاومة الاستراتيجية.
ويعني ذلك:
تعزيز التحالفات مع شركاء إقليميين وقوى عالمية كالصين وروسيا وحتى كوريا الشمالية.
فضح عمليات الولايات المتحدة و”إسرائيل” على المنصات الدولية.
تأمين الجبهة الداخلية، لا سيما الحدود، بأقصى درجات الحذر من الاختراق والتخريب.
استخدام الأدوات غير التقليدية — كالهجمات السيبرانية، وشبكات الاستخبارات، للرد بدقة، لا بانفعال.
استعراض “إسرائيل” لقوتها ليس إلا جزءا من حرب الدعاية.
فشل إسرائيل الفادح في 7 أكتوبر، وحربها الوحشية وغير المحسومة في غزة، قد دمّرا بالفعل أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
ما نتعامل معه ليس دولة منضبطة، بل منظومة عسكرية بعقلية المافيا — عقيلية عدوانية، لا يمكن توقع مدى توحشها، وقادرة على ارتكاب جرائم لا وصف لها، لم لا والولايات المتحدة وحلفائها على أهبة الاستعداد للدفاع عنها.
ولهذا يجب على إيران ألا تمنحها المبرّر ولا الفرصة للتصعيد. بمعنى آخر: لا تُعطها الأدوات التي تقتل بها. فالحكمة القديمة تقول:
“انجح في صمت، ودَع أفعالك تسبق كلماتك.”
في هذا النوع من الصراعات، السرية ليست فقط استراتيجية — بل هي وسيلة للبقاء.
لا يأتي تفوّق “إسرائيل” غالبا من قوة حقيقية، بل من أخطائنا نحن : ضعف في تأمين العمليات، تصريحات علنية طائشة، وردود أفعال عاطفية.
الصمت هو القوة. والانضباط هو الدفاع.
وفي حرب الظل هذه، ضبط النفس ليس ضعفًا — بل هو سيطرة. والسيطرة هي التي تنتصر.
*كاتبة فلسطينية
