د. هاني الروسان*
في مشهد يعكس مفارقات السياسة الأميركية في اسخف صورها، كان الخروج المتكرر لدونالد ترامب متمسكًا بخطاب الانتصار بعد سلسلة من الضربات الجوية التي نفذتها القوات الجوية للولايات المتحدة ضد ثلاثة اهم مواقع نووية ايرانية، وقوله فيىوصف العمليات بأنها “رسالة قوة لا يمكن لإيران تجاهلها”، بدت خارج سياق الواقع العسكري والميداني الذي رسمته معظم التقارير الدولية، والتي أجمعت على محدودية تأثير هذه الضربات وافتقارها إلى عنصر الردع الحقيقي أو القدرة على تغيير قواعد الاشتباك. والمفارقة هنا لا تكمن فقط في الفجوة بين الخطاب والنتائج، بل في المناورة الفجة لتوظيف هذه الفجوة بحد ذاتها كأداة ضمن استراتيجية أميركية أوسع، تتجاوز منطق الحسم العسكري لتكرّس منطق إدارة التهديد واستدامته.
فمنذ ما بعد الحرب على العراق وتفكيك الدولة والحيش هناك وتجاوز استراتيجية الاحتواء المزدوج، التي ادت الى تصاعد النفوذ إلايراني في المنطقة، لم تتبع الولايات المتحدة سياسة متماسكة تهدف إلى إنهاء هذا النفوذ أو تفكيكه جذريًا، بل انتهجت ما يمكن تسميته بسياسة “الاحتواء المتوتر” أو “الإبقاء على حالة التهديد بالتصعيد المضبط. هذا النهج الذي تناقلت ممارسته الإدارات الأميركية المتعاقبة، يستند إلى قناعة استراتيجية غير معلنة مفادها أن وجود تهديد إقليمي دائم، تمثله إيران ووكلاؤها، يوفّر مبررات مستمرة للوجود الأميركي في الخليج، ويفتح الباب لسابق تسلح محموم بين دون الاقليم الخليجي فضلا عما يوفره من بيئة ملائمة لبناء وتعزيز الشراكات الأمنية بشروط أميركية.
وترامب، بشخصيته الشعبوية الفجّة، اعاد انتاج هذا النهج اليوم كما هو، ودون اية رتوش. فهو لا يرى غضاضة في التباهي بعمليات لا تحقق الأهداف المعلنة، طالما أنها تخدم رواية القوة والردع الأميركي، وتُبقي دول الخليج في حالة قلق دائم من التهديد الإيراني، مما يضمن ولاءها الاستراتيجي وتبعيتها الأمنية.
لذا لا يمكن اعتبار الخطاب الترامبي الانتصاري وما تبعه من تهديدات لكل من يشكك بهذا الانتصار انعكاسًا لخالة تضليل أو ضعف وخطأ في التقييم، بل هو تمظهر صريح لما ظلت الإدارات السابقة تمارسه بصورة مواربة، وهو الرهان على استمرار التوتر لا إنهائه.
فحين تُنفّذ ضربات لا نقول جزئية ضد المواقع النووية في ايران، بل مقدرة النتائج مسبقا حيث الاحتمالات ذهبت قبيل هذه الضربات لاستحالة الوصول الى عمق منشأة فوردو، دون أن يعقبها تغيير في قواعد التموضع أو ضمانو سلوك طهران المستقبلي في الساحة الإقليمية، فإن ذلك لا يشير إلى عجز تكتيكي بقدر ما يعكس قرارًا استراتيجيًا بعدم التصعيد إلى مستوى يُنهي اللعبة جذريا لعدة اسباب قد تكون من بينها عدم استعداد واشنطن للانخراط في حرب مفتوحة مع ايران، ولكن اهمها الابقاء على هذه الاستراتيجية التي تُبقي طهران في موقع العدو غير المحسوم، وتُبقي الخليج في موقع الحليف القلق. وهو توازن هش لكنه مربح. مربح لصناعة السلاح، للنفوذ الأميركي، وللابتزاز السياسي الذي يُمارس على حلفاء لا يملكون بديلًا جاهزًا، كما انه يمنح الادارة الامريكية مزيدا من الوقت لفحص المآلات التي قد تذهب بها في علاقتها مع ال
لثنائي المنافس روسيا والصين، خاصة وان الاولى لا زالت تناور في الكشف عن النهايات المنتظرة لحربها في اوكرانيا.
واللافت هنا هو الاصرار الامريكي على جعل البرنامج النووي الإيراني نفسه أداة في هذه اللعبة. فحين وقّعت إدارة أوباما الاتفاق النووي عام 2015، لم يكن الهدف نزع الخطر الإيراني بل تقنينه. وحين انسحب ترامب منه عام 2018، لم يكن الدافع وقف البرنامج فعليًا، بل خلق ذريعة لتصعيد الضغط الاقتصادي واستعراض القوة. وفي كلتا الحالتين، بقيت إيران ضمن هامش التهديد المقبول أميركيًا، الذي لا يبرّر الحرب الشاملة، ولا يسمح بالتهدئة الكاملة.
من هنا يتضح أن واشنطن لا تمانع، بل ربما تحتاج، إلى بقاء إيران التي تقع في فضاء جيوسياسي خطير كقوة إقليمية مقلقة. فإيران اليوم ليست فقط “عدوًا” يتم قصفه عند الحاجة، بل هي “فزاعة استراتيجية” تبرر كل تموقع عسكري، وكل صفقة تسليح، وكل ضغط يُمارس على دول الخليج لتقديم التنازلات، سواء في مسار التطبيع مع اسرائيل أو إعادة صياغة علاقاتها الأمنية.
وترامب، في هذا السياق، ليس حالة شاذة بل تجسيد فجّ للوظيفة التي تمارسها السياسة الأميركية في المنطقة. هو يلبس الاستراتيجية عباءة الخطاب الشعبوي، فيحوّل الضربات المحدودة إلى نصر إعلامي، ويبيع الردع الفارغ كمنجز أمني. وبينما يدّعي أنه يردع إيران، يواصل تكريس معادلة الردع المتبادل التي تُبقي واشنطن ضامنة وحيدة لأمن الخليج، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة والواقع الميداني.
في المحصلة، لم تكن الضربات الأميركية الأخيرة أكثر من فصل جديد في استراتيجية إدارة الصراع، لا حسمه. وكل تصريح انتصاري يصدر عن ترامب أو غيره، ليس سوى غطاء لتكريس نمط من الهيمنة لا يُبقي دول الخليج في مواجهة التهديد، بل في مواجهة حتمية مع هشاشة خياراتها الاستراتيجية. وبينما تُصوّر إيران كعدو خارجي، يبدو أن العدو الحقيقي هو الفراغ الذي تُبقيه واشنطن مفتوحًا، وتدير من خلاله مصالحها ببراغماتية صارخة.
*كاتب وأكاديمي تونسي