د. معن علي المقابلة*
في خضم الضغوط الدولية لتطبيق ما يُسمّى “هدنة إنسانية” في غزة، يتضح أن ما يُطرح ليس مبادرة لوقف الحرب، بل مناورة لإعادة ضبط إيقاعها. فالعروض التي تُقدَّم للمقاومة لا تتضمن أي التزام بوقف العدوان، بل تدعو إلى هدنة مؤقتة تتجاهل جذور الصراع وتُحمّل المقاومة وحدها مسؤولية استمراره.
المقترح الإسرائيلي الحالي، الذي تُروَّج له أطراف دولية باعتباره “عرضًا سخيًا”، لا يعدو كونه محاولة لإحراج المقاومة: إما أن ترفضه فتُدان دوليًا، أو تقبله فتفقد أدوات ضغطها، ويُستأنف العدوان بعد انتهاء المهلة. بهذا تصبح الهدنة فخًا مزدوجًا، تُستخدم فيه المعاناة الإنسانية كأداة ضغط لترويض المقاومة، لا لإنهاء المأساة.
منذ اللحظة الأولى، طرحت المقاومة موقفًا متماسكًا: وقف شامل لإطلاق النار، رفع الحصار، وتبادل الأسرى ضمن صفقة متكاملة. هذا الطرح يواجه تجاهلًا متعمدًا، بينما يُسلّط الضوء على “الجانب الإنساني” فقط، وكأن غزة أزمة طارئة وليست نتاج احتلال مستمر. وهنا يكمن الخطر: تجزئة الحل لتفريغ المطلب الفلسطيني من مضمونه السياسي والحقوقي.
صحيح أن التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني كبيرة، بل هائلة، إلا أن العدو أيضًا يتكبد خسائر يومية ومستمرة. فالمقاومة، رغم ضراوة العدوان، ما زالت تُوقع في جيش الاحتلال خسائر نوعية من خلال عملياتها واستهدافها شبه اليومي لمواقعه وجنوده. كما أن الحياة داخل الكيان تعيش اختلالًا شبه دائم منذ أكثر من سنتين، بفعل الضغط الأمني والقلق الداخلي وفقدان الإحساس بالاستقرار. وكما يتألم الفلسطيني تحت القصف، يتألم العدو تحت الضربات، وهو ما يجعل من استمرارية المواجهة تهديدًا حقيقيًا لمنظومته.
الترويج للهدنة كخيار “عقلاني” يخفي في طياته مشروعًا لتفكيك المقاومة من الداخل. إذ تسعى إسرائيل، عبر هذه المبادرات، إلى تحييد الورقة الأقوى لدى المقاومة — الأسرى — وفرض واقع جديد على غزة تحت مسميات “إعادة الإعمار” و”ضمان الأمن”، وهو ما يعني فعليًا محاولة نزع سلاح المقاومة مقابل فتات اقتصادي.
هذه ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها مثل هذا السيناريو. ففي كل جولة صراع، حين تفقد إسرائيل السيطرة على المشهد، تُهرع الأطراف الدولية إلى اقتراح هدنة مؤقتة، تتجاهل الاحتلال والاستيطان وجرائم الحرب. أما حين تثبت المقاومة قدرتها على الصمود والردع، تتحول إلى طرف معرقل للسلام في السردية الغربية.
أي هدنة لا تتضمن وقفًا حقيقيًا ودائمًا للعدوان، ولا تعترف بالحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، ليست سوى وسيلة لترتيب ميدان المعركة من جديد. والمطلوب ليس مجرد توقف مؤقت لإطلاق النار، بل حل جذري يُنهي العدوان من أساسه، ويعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الحرية والسيادة، بعيدًا عن صيغ ملغومة تُدار من مكاتب الاحتلال وتُسوّق كحلول إنسانية.
*كاتب وباحث وناشط سياسي/ الاردن
