السبت , ديسمبر 13 2025
الرئيسية / اراء / الموت من أجل ثلاثة دولارات في اليوم!

الموت من أجل ثلاثة دولارات في اليوم!

خالد شحام*
ليس الموت وحده فيك يا غزة هو الذي يؤلمنا جميعا ، فالحيـــاة أحيانا يمكن أن تؤلم أكثر من الموت، لقد تفشى الداء الاسرائيلي حتى أصبحت معظم مدن العروبة معسكرات اعتقال كبيرة دون أسيجة، تُمارس فيها الحيــاة وشعائر العيش تحت شعار واحـد خفيٍ كبير يمتد من الفرات إلى النيل، عنوانه: حماية أمن اسرائيل ، وتحت هذا الشعار الخفي يجري تفكيك معالم الشخصية العربية والمواطنة العربية في مطحنة الدكتاتورية والانكماش حتى الفقدان، تحت هذا الشعار يمكن أن يموت المرء من أجل حفنة من رحمة في مستشفى حكومي، أو ثلاثة دولارات أجرة ليوم عمل واحد ، يمكن أن تمتهن كرامته وتصادر حريته وكلماته، في بعض مدن العرب استبيحت حياة المواطن إلى افتراس متواصل بلا هوادة ، تحولت المدن إلى مطحنة للأحياء ومساحات لزراعة الكآبة والبؤس والفشل المتواصل منذ المهد حتى اللحــد ، تليق بهذه المدن اسماء من قبيل خُلِق ليفترس، أو خُلِق ليؤكل كما في برامج البراري أو الغابات التي تعرضها ناشونال جيوغرافيك، لهذا السبب فنحن نسجل أعلى معدلات الإصابة بالحوادث و بالسكري والجلطات والأزمات القلبية والتسمم الأزلي بالكورتيزون، هذه هي مدن العرب أو معظمها على الأقل التي يهب عليها اليوم ريح السموم الاسرائيلي بلا توقف ولا رحمة.
فلنكتب رثائيتك أيتها المدن الحائرة التي هجرت أهلها ، فلنحزن لأن شوارعك الجميلة لم تعد كما عرفناها في الذاكرة الضائعة ، تلاشت حارات الفل والياسمين وجاء دخان السيارات وطفحت شبكات المجارير بصحبة الإعلاميين الاسرائيليين، أحزن لأنني أسمع كل يوم أنين الفقراء والمحرومين وأشاهد مكابدة ابنائك في لقمة العيش المغمسة بالشــقاء ، محزونون نحن يا مدن العرب لأن الهواء لم يعد نظيفا ولا الطعام مملحا ببعض الكرامة، محزونون يا مدن العرب لأننا نرى قيمة هذا المواطن المسكين تُمسخ إلى قارض أو حشرة تحاول الهروب عبر السياج الشائك أو تنتحر على أعتاب الأقفاص الكبيرة.
فُجِعنا جميعا يوم السبت الماضي بحادثة التصادم في محافظة المنوفية في مصر في الطريق الآقليمي والتي راح ضحيتها 19 فتاة مسكينة كن في طريقهن الى العمل، وهنـا لا يسع المرء الا تقديم واجب العزاء لمصر ولشعب مصر وأهالي الضحايا بهذا الحدث الأليم الصاعق ، ومن باب الاحترام لمصر وللضحايا أشير بأن هذه المقالة لم تكتب كي يتم النبش أو الهبش أو الاساءة ، لكنها كتبت لتكون دافعا للتفكير والتأمل في المسرح الخيالي الذي وصلنا إليه ، ثم لأن قضية المواطن العربي هي قضية كل كاتب وكل صحافي شريف أينما وجد هذا المواطن، إن مصر هي القلب النابض في صدر المنطقة العربية وطالما كانت مصر بخير فنحن جميعا كذلك لأننا لا نقبل أبدا أن يمس مصر التي نحبها أي شيء .
الحوادث يا سادة لا يمكنها أن تقتل 65 ألف إنسان مصري في عشر سنوات ، فهذه الكلمة تشير في معناها إلى ظرفٍ زماني ومكاني نادر الوقوع وسيء النتائج، لكن ما يجري من كوارث داخل مصر وكثير من مدن العرب تعدى مفهوم الحوادث وأصبح شيئا عاديا ، فعندما يكون الفساد والاهمال وضياع المسؤولية هو المزيج السائد تصبح الحوادث غير حوادث ، بل وقائع محتومة بنسبٍ عالية جدا في علم الاحصاء الرياضي ، و في مثل هذه الحالة يتحول كل شيء إلى خطر حيث تصبح المياه خطرة والطعام خطر والطرقات أفخاخ والسياحة رعب ، تصبح الاضافات التكنولوجية مجرد ملهيات ومحفزات للبذاءة وقلة الانتاج والترهل الوظيفي وممرات لاكتشاف عفن المجتمع وتكريس الشهوات كأداة تهديد وسيطرة باطنية ، تصبح كل النعم وسائط للوصول الى الغرائز وتصبح الغرائز وسائط لقتل الإنسان وطرحه خارج الحيــاة بلا رقيب ولا حسيب ، في مثل هذا الحســاء الاجتماعي لاعزاء للفقراء ولا سكينة للنفوس ولا أمان للبيوت والعائلة ولا الزوج ولا الزوجة .
إذا ماذا يجري وما هو الخيط العجيب الذي يربط هذه الحوادث في المدن العربية بماتش الجرائم الأمريكية –الصهيونية الطويل الذي يطوف في المنطقة منذ سنوات ؟
1-إذا كان أحدكم يعتقد بأن حوادث التصادم والغرق والانهيار والتسمم الغذائي تحدث بمعزل عن الحريق الذي يتمدد في المنطقة فهو مخطىء ولا يدرك بأن هذه الأشياء التي تبدو معزولة وظرفية إنما هي الفيلم النيجاتيف الذي يسبق عملية التحميض لإستخراج الصورة النهائية في التصوير الفوتوغرافي ، إن مصر بحكم مكانتها لم تنجُ من توابع ما يحدث في المنطقة حتى لو كانت المعركة بلا صوتٍ أو دخان ، هنالك حرب ضارية تشن على مصر داخليا وخارجيا ، لقد شهدت العملة المصرية خسارة في قيمتها وصلت الى 85% ، وتغرق البلاد في الديون والقروض ومحاولات بيع الأصول اضافة الى تضخم وغلاء معيشة ، قفزات في اسعار الوقود وصلت إلى 40% ، انقطاعات وجدولة في تشغيل شبكات الكهرباء مما يعني أن كل هذه الدوامة لا تمثل أزمات اقتصادية داخلية بقدر ما هي ضغوطات وألاعيب سياسية تحوط مصر وتدفع بها إلى الهاوية بهدف انتزاع أوراق القوة الجيوسياسية منها ومن ثقلها الشعبي الديني والقومي ، ووفقا لاحصائيات البنك الدولي اللعوب الكذوب فإن 66% من المصريين أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر في احصائية 2025 ، مثل هذه الوصفة تكفي تماما لتحضير أية بلاد وتحويلها إلى مسرح تابوتي جاهو ومجهز لعدد هائل من الجنازات التي تولدها تفاصيل الحياة العادية جــدا .
2- يغيب عن أذهان الكثيرين أن هنالك إعادة هندسة جرت على الأنظمة العربية عقب اندلاع ثورات الربيع العربي المأسوف على شبابه ونتائجه ، لقد فاجىء هذا الشيء القوى الاستعمارية ودفعها لإحداث تغييرات ديناميكية في بنية ووظائف تلك الأنظمة ، بعضها جرت الإطاحة به واستبداله بإدارات عسكرية ذات قمع شديد لكسر أية بوادر صعود أو ثورة أو أمل لدى الشعوب ، بعض تلك الأنظمة أعيد تأهيل قواها لتصب جهودها على الشعوب وتحرف بوصلتها بأدوات داخلية متنوعة ، بعضها تم تخويفها وابتزازها للخضوع للمشروع الصهيوني تخويفا من شعوبها ، وبالنسبة للشعوب التي ثارت وارتفع هدير صوتها كان لا بد من احتوائها ومعاقبتها ، إن حالة الإنهاك الاقتصادي ومعصرة التأزيم الداخلي هي جزء من آلية الاحتواء الاحترازي أولا ثم العقاب ثانيا ، وهي الآلية غير المعلنة على الشعوب العربية التي فكرت بكسر القيد والخروج من السجن ، العقاب للشعوب يتخذ ثلاثة مناهج : الاهمال ، تدمير المنظومة الأخلاقية والتعليمية ، الإفقار والتقسيم الطبقي البارز.
في داخل مصر كانت ثورة 25 يناير حدثا استثنائيا لم يزلزل مصر وحدها ونظام حسني مبارك ، بل تسببت هذه الثورة في تداعيات خطيرة جدا على كامل البنية الاستعمارية وخططها ورؤيتها وأدواتها وتمددت الهزات الارتدادية من الكيان الصهيوني حتى البيت الأبيض لأن مصر هي مصر ، لذلك كان لزاما بتر هذه الثورة فورا وبشكل حاسم وذكي واستيعاب القصور الذاتي للاندفاع الشعبي بإعادة جدولة وظائف العناصر و نوعية الخطط ، ولهذا السبب لا يمكن النظر لمعدلات الحوادث وضحاياها بأنها شيء معزول عن وجود ضمير عقابي متسلط حرم هؤلاء الناس من الخدمات الصحيحة والبنية التحتية الصحيحة وقلص الانفاق وخطط التنمية وأطاح بأولويات رعاية المواطن إلى الحضيض، إن الصحة الداخلية لمصر تشكل خطرا كبيرا على الوجود الصهيوني والدولة العبرية ولهذا السبب لا يمكن السماح لها بالاستقرار أو راحة البال أو أي شيء يمكن أن يوفر لها هامش الاستقرار أو القوة .
3- إن كان هنالك من حدثين يدفعان بي دوما إلى التأمل العميق طيلة السنتين الماضيتين في سلسلة الأحداث العجيبة التي وقعت في المنطقة ، فأولهمــا هو الضربة المبتكرة التي تعرض لها حزب الله والاختراق العميق الذي لم يكن أحد ليتصوره على الإطلاق ، ومثله تماما شبكات الاختراق المشابهة التي أنشئت داخل ايران وتمكنت من التسبب بقتل خيرة العلماء والقادة ، والأمر الثاني هو مدى وشدة الوحشية الاسرائيلية الإجرامية الفريدة في التاريخ التي تنزل دون مستوى الحيوانات المفترسة ، ومن لم يتأمل جيدا في هذين الحدثين فقد فاته جزء حيوي في الفهم ، إن هذا التأمل يدفع بسؤال خطير للغاية : ما هو كم وكيف الاختراق الواقع فعليا في كل بلد عربي من المحيط إلى الخليج بعد الذي شاهدناه ؟ ما هي طبيعة البيجرات المزروعة والمعدة داخل بلد كبير وثقيل استراتيجيا مثل مصر وما هي انواعها وأعدادها وأين مواضعها ؟ ما الذي زرعه هذا العدو في كل دول العرب وعواصمهم وكم ايلي كوهين لدينا وما هي المهام الجديدة الموكولة لهم ؟
لو كنت في موقع المسوؤلية العربية لقمت فورا بتشكيل لجــان تحقيق وبحث وتقصٍ للحقائق لكي أفهم إلى أين وصلوا في دواخلنا ، وما الذي سينتج من بين أيديهم المجرمة إذا كانوا متواجدين ، هذه الفكرة الأولية يجب أن تكون جذرا أساسيا لفهم الحوادث التي تقع ويدفع البعض ببراءتها من عنصر المؤامرة .
في بحر الاسبوع الماضي أطل علينا ما يسمى المستشرق الاسرائيلي (تسيفي يحزكلي) بتصريح خاصٍ لمصر التي قدمت خدمات أكثر من جليلة طيلة فترة العدوان على غزة ويقول في تصريحه بأنه قد حان الوقت للتوجه نحو مصر بعد ايران ، وجــاء أوان التعامل مع مصر بمبدأ الحرب الباردة ، يكفي هذا لكي نفهم بأن سيناء ليست غائبة عن شهية الكيان الصهيوني بوصفها العمق الجغرافي المستقبلي لأرض اسرائيل الضيقة قليلة العمق ، وبوصفها أيضا (المكب البشري) لسكان غزة وفقا لرؤيتهم الإجرامية ، وهذه النظرة المبيتة التي يعبر عنها المجرم المستشرق حزكيلي تمثل طيفا واسعا من الراي العام في عصابات الكيان ومستوطنيه .
في الوقت الذي يدور الحديث فيه عن هدنة داخل غزة وبعدما تم لدغنا جميعا عدة مرات ، فمن المؤكد أن هنالك تدبير ما يتم حبكه حول ايران بوصفها العقدة الأخيرة في خط النار ، تدرك ايران تماما هذه الفكرة وفي التقييم المنطقي يمكن القول بأن ايران تسابق الوقت لتجهيز قنبلة ذرية أولية لأنها تعلم علم اليقين بأن هذه القوة هي ورقة تأمين البقاء ومقاومة الإبادة القادمة لها ولنا جميعا ، لكن السؤال هنا ما هي اوراق قوة مصر لو وقعت الواقعة ؟ كيف يمكن الوقوف في وجه العاصفة الصهيونية التي تشحذ أسنانها بينما الموت والفوضى يفرضان نفسيهما في مدن العرب ؟
إن الحوادث التي تقع في مصر لها علاج واحد اسمه استعادة مصر لعافيتها المتكاملة ، ومصر التي نحبها تستعيد عافيتها عندما تستعيد مكانتها وتأثيرها وثقلها وأجنحتها التي جرى قصها وطيها ، مكانة مصر أكبر وأهم من أن تكون وسيطا أو محايدة أو صامتة على الحريق الذي يتمدد في المنطقة ، ستتوقف كل الحوادث والموت الذي يلتهم المواطنين بالجملة عندما تعود مصر لتكون طليعة العروبة والهوية العربية الإسلامية وتقود أمة العرب بروح عبد الناصر وتضع حدا للعربدة والتبعية والإذلال الذي يجري بحقها وحقنــا جميعا من الماء العذب إلى الماء المالح.
إن قوة مصر الحقيقية تكمن في شعبها العظيم وقدراته القومية والإسلامية والعلمية والفكرية إذا أعيد شحنها وإطلاقها ، أوراق مصر هي الأوراق الرابحة إذا اشتغلت ، وكل من يراهن على فشل شعوب العرب وأمة الإسلام عليه أن يتوقف عن هذه الخدمة المجانية لحلف المجرمين ، مصر والمنطقة مقدمان على تحديات وجودية ومصيرية لا ترحم ، سوف نظل نراهن على قوة وعظمة مصر لأنها إن نجت نجونا جميعا ، وإن هلكت هلكنا جميعا ، ومهمــا طال الزمان وطالت المعركة فكلنا يقين وثقة بأن مصر سوف تستعيد مكانتها وتسترجع قوتها ، شعب مصر هو الرقم الأكبر والأثقل في ميزان المعركة القادمة ، وهويته العربية الإسلامية هي الضمانة الوحيدة التي نعلم بأنه لن يفرط فيها أو يتنازل عنها .
إذا كانت غزة العظيمة هي التي فتحت بداية النهاية للكيان الصهيوني وأطاحت بهيبته وزيفه فإن هنالك ساحتان ستكتبان نهاية المشروع الصهيوني خلال الفترة القادمة ، إنهمــا مصر وسـوريا بالتحديد ، و الأيام بيننا !
*كاتب فلسطيني

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

تحولات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تجاه إيران!

بروفيسور. عوض سليمية* تميزت الفترة الرئاسية الاولى للرئيس ترامب (2017-2021) بتوترات كبيرة في العلاقة مع …