الأحد , ديسمبر 14 2025
الرئيسية / اراء / عن إبادة الجائعين في غزة!

عن إبادة الجائعين في غزة!

 

د. لينا الطبال*
محمد، طفل من غزة عمره 12 سنة استشهد والده يوم امس و لم يتبق من عائلته سوى وجوه جائعة تتبادل النظرات… النظرات فقط. في زمن المجاعة، لا أحد ينادي على أحد باسمه. الاسم لا يناسب معدة فارغة.
وغزة مليئة بالأسماء التي لم يعد لها لسان. يُقال: مات طفل او استشهد، او ماتت امرأة، ولا أحد يسأل: من؟ ما اسمه؟ فالإنسان حين يجوع يفقد بطاقته، صوته وصورته، وحتى أحقيته في التسمية.
طفل في الثانية عشرة من العمر يزن خمسة وعشرين كلغ، ضلوعه تستطيع ان تعدها واحدة واحدة، واضحة كالخريطة لكنها لا تؤدي إلى أي وطن. جلده مشدود فوق العظام، لا توجد طبقة دهنية تحمي جسده. ذراعاه نحيلتان لدرجة أن الكف يبدو أكبر من الساعد، والاصابع طويلة جدا. بطنه منكمش إلى الداخل… محمد يمشي، إن سميناه مشيا، بالأحرى هو أشبه بزحف او زحزحة… وجهه صغير، وجنتاه غائرتان، وعيناه واسعتان جدا بسبب ضمور العضلات المحيطة بهما. صوته منخفض، مجهد. يتنفس بسرعة أحيانا، بسبب ضعف الكتلة العضلية للجهاز التنفسي. جلده جاف وكأن البحر في غزة لم يعد يبلل، وهناك تقشر، وشحوب واضح في اللون. أظافره مرقطة ببقع بيضاء وشعره خفيف ومتساقط عند الأطراف.

الاطباء يسمون هذا سوء تغذية حاد ومزمن… انا اسميه: التحالف العربي–الإسرائيلي لإبادة غزة.
عشرات الشهداء تسقط كل يوم، من القصف ومن الجوع أيضا… اليوم اصبح بإمكان جيش الاحتلال، الذي انتحر منه 54 جندي بسبب عقدة غزة، أن يرتاح… سلسلة الانتحارات تهز المجتمع الإسرائيلي من الداخل، كزلزال: لا حاجة بعد الان لأبناهم للقصف… الجوع هنا في غزة اقوى من الرصاص، ومن كل أسلحة جيشكم الغبي وأكثر فتكا من اليورانيوم المنضب…
الموت، حين يأتيك على مهل، يُعطيك الوقت الكافي لتدرك أنك تموت لأنك فلسطيني، لا أكثر.
عندما يجوع الإنسان، يشعر الجسد في اليوم الأول بالضيق ويستهلك ما تبقى من الغلوكوز. في اليوم الثاني، ينتقل إلى حرق الدهون. في اليوم الخامس، يصبح الهواء أكثر كثافة واثقل من الإسمنت…الأعضاء تبدأ بالاختفاء: الكبد يصغر، القلب يبطئ، الدماغ يتشوش. الجلد يجف والجسد يصبح غرفة فارغة فيها صدى التنفس فقط.
في اليوم السابع، تضحك كالأبله وجهازك العصبي لا يميز بين الإشارات، ووجهك لا يعرف لماذا يتحرك وحده. في اليوم العاشر، تشتاق لطعم شيء، أي شيء…هناك رجل نقع الخشب في الماء وأكله… رجل أكل الرمل وآخر أكل الحجارة… امرأة حفرت تحت الأرض لتستخرج جذر شجرة ميتة، استخرجته لتطعم طفلها … الطفل الذي مات قبل أن يتذوق الجذر… وفي اليوم الرابع عشر، يبدأ الدم بالكسل، لا يصل كما كان، وكأنه سئم… كأنه يحتقرك ويقول: “احترق وحدك. لن أكون شريكا في هذه المهزلة.”
لا، الجوع في غزة لا يقتلك بهذه السهولة… الجوع ليس جلادك الرحيم، الجوع سادي، لا يحب السرعة. هو يتركك حيّ، فقط لتشاهد موتك، ببطء، بملل وبوعي.
وإن كنت من المحظوظين، نعم، هناك حظ في الجحيم أيضا، فأن تموت وانت تقف في طابور طويل، تحمل بطاقة الأمم المتحدة وتنتظر دورك… تموت من اجل كيس طحين عليه شعار أزرق باهت.
في غزة لا يوجد مجاعة… هناك مسلخ، أجساد جائعة ممددة، معروضة امام الشاشات، تعب رخيص وصمت أرخص، وكرامة الامة العربية سعرها ربع شيكل… هذه الإبادة رقم مليون ربما…الرقم غير مهم، المهم إنها إبادة بالجوع وإسرائيل ترتكب إبادة بحق الجائعين في غزة.
هل تشعرون بالاكتئاب؟ جيد. هذا بداية الإحساس.
لكن دعونا نضحك قليلا هذه المرة من شدة القرف… في الجهة المقابلة لغزة وفي رام الله رئيس اسمه محمود عباس، يُعرف بلقب “أبو مازن”. في الواقع، هو دائم الانشغال في وظيفة واحدة: “متابعة الوضع”.
نعم، هو يتابع… ويتابع النوم ايضا. بينما غزة تمضغ الرمال وتُسجل أسماء الشهداء، أبو مازن يتابع النوم.
وحين يسأله أحدهم عن رأيه في المجازر، يتنهد، يفتح عين واحدة نصف فتحة، ويقول “نحن نُجري اتصالات”، لكن من يتصل بمن؟ يقول وهو نصف نائم ” الأجهزة الأمنية تتشاور مع الأجهزة الأمنية”.
في تاريخه السياسي الطويل، الذي هو أطول من عُمر أطفال غزة، ونساءها ورجالها… لم يُسجَل له موقف، إلا بعد التأكد أنه لن يزعج أحد في تل أبيب أو واشنطن… هو الرئيس الفلسطيني الوحيد الذي ينام أكثر مما يحكم.
من قال ان سلطة رام الله غائبة … ها هي حاضرة بكل خيانتها.
كالعادة، أصدرت وزارة الخارجية الفلسطينية بيان جديد. نعم، بيان. أدانت فيه ما سمته “جرائم القتل الجماعي التي تستهدف مراكز توزيع المساعدات”. جميل، اللغة مضبوطة والجملة محكمة الصياغة وإدانة كالعادة… لكن هل جَرّب أحدكم في سلطة رام الله الجوع فعلا؟ هل جلس وزير الخارجية تحت شمس رفح وشرب من ماء البحر؟
يتابع البيان حرفيا “هذه حلقة جديدة في مسلسل القتل العمد الذي يلاحق أكثر من مليوني مواطن في القطاع، بأشكال متعددة تشمل القصف والتجويع والتعطيش والحرمان من العلاج والأدوية … “
جريمة جديدة في مسلسل القتل العمد… أي مسلسل يا معالي الوزير؟ هل نحن في الموسم الرابع من دراما رمضانية؟ لا أحد يضحك. في غزة، الناس لا تملك تلفاز لمشاهدة هذه المهزلة… الناس في غزة لا يحتاجون توصيف لغرقهم.
مواطنوكم الجياع لم ينتظروا بيان … كانوا ينتظرون الخبز… أما الجاني فلم يُذكر له اسم، مجهول كالعادة… غزة تُباد والوزارة تنسخ بيانات سابقة… برافو، تصفيق حار.
الأمم المتحدة، تُواصل أداء دورها بقلق المراقب الاعمى… وتحتج على عدم تجديد تأشيرة رئيس مكتبها “جوناثان ويتال”.
تخيّل، يا عزيزي، أنك تحتاج إلى فيزا لتدخل المقبرة… تخيّل أن العمل الإنساني صار مشروط بتوقيع القاتل.
أما السبب؟ لأن “ويتال” تجرّأ وصرح في مؤتمر صحفي إن الناس في غزة يموتون من الجوع وهم يحاولون الوصول إلى الطعام.
يا له من تصريح وقح: الناس يتضورون من الجوع.
فيما مضى كانوا يجوعونك… ثم يلقون لك علبة سردين من الجو، يقولون “اصمت، لقد حاولنا.” اليوم؟ لا حاجة للمحاولة.
هل تذكرون؟ كان ملك الأردن يُرسل مساعداته إلى غزة من السماء، محمولة على أجنحة الطائرات. علب محفوظة بدقة، تُرمى من الأعلى في البحر مقابل غزة… كنا نضحك وقتها، نسخر ننتقد ونقول: “هذا استعراض جوي للذل”.
لكن انظروا إلينا اليوم: حتى هذا العرض الرخيص انتهى… لا طائرات، لا مظلات، لا سمكة سردين واحدة معلبة. حتى الإذلال لم يعد متاح لنا ولكم… لدى الأونروا ما يكفي من الغذاء لأهل غزة ولمدة اشهر… الغذاء موجود في العريش، في صناديق مكدسة. لكن غزة ليست في العريش. الغذاء ينقصه سوى شيء واحد: السماح له بالدخول.
في نفس الوقت يُغرد أنس الشريف المراسل الشجاع، بصوت نصف ميت، نصف حي: “لم أتوقف عن التغطية منذ 21 شهرا. لكن أنا أترنح، أقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة غزة تموت، ونحن نموت معها”، يصرخ انس “هذا الموت يجب أن يتوقف. هذا الحصار يجب أن يُكسر “.
نراك يا انس، ونعرف شجاعتك… نسمع صوتك المكسور، وغزة ليست وحدها تموت… نحن نموت معها. الذي يحدث في غزة ليس بعيد عنا، هو يحدث فينا… في أعصابنا، في جلدنا، في ضميرنا الذي لم يمت بعد رغم محاولاتهم… نراك يا أنس، ونسمعك، نموت مع غزة، لأن من لا يموت معها هو ميت أصلا، بارد، بلا نبض، وملفوظ من الحياة.
لن أطيل، فالأمعاء الخاوية لا تتحمل المقالات الطويلة. هذا ليس مقال عن المجاعة، ولا عن المجزرة. هذا مقال عن إبادة الجائعين، وليس له توصيف كافي في القانون الدولي… لا يوجد اتفاقية دولية او ميثاق دولي لحماية الشعوب من الإبادة عبر الجوع.
محمد لم يمت بعد، لكنه يقترب، بهدوء… فلا تنسَ يا أنس أن تُسلم عليه إن مرّ بك. وان تنقل لنا اخباره وهو يختفي…
وليذهب الجميع إلى الجحيم…
أنا كتبت. هذا كل ما أملكه. وأنت ماذا فعلت لأجل طفل يزن 25 كلغ؟
*كاتبة واكاديمية وباحثة سورية – باريس

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

عبدالقادر هلال : رجل ترك بصمة في قلب صنعاء

  بقلم / عادل حويس في كل عام عندما يحل الثاني عشر من ديسمبر تلتقط …