خالد شـحام*
مع ثقل الجريمة الأمريكية الحاضرة يسيل الدم الفلسطيني باحثا عن مُنزِله بإلحاح، يسيل متعرجا مضطرا للبحث في دفاتر التاريخ البائد حتى يفهم العلاقة السرية بين الماضي المندثر والحاضر الذي لا يكاد يصدقه، تبدأ القصة ببساطة من الأسئلة الشهيدة والأسئلة الممددة الجريحة على سرير الضمير: لماذ يقتلون أطفالنا؟ لماذ يصرون على تدمير البيوت على الآمنين المساكين لماذا تباد المشافي؟ من أين بدأت المذبحة وأين تتوقف المجزرة؟ من هم هؤلاء؟ لماذا يفعلون هذا القدر من الوحشية غير الاعتيادية؟ هل من المعقول أن عملية طوفان الأقصى تستحق كل هذا الرد المهدور من الدم البشري؟ هل من المعقول أن هنالك بشر يحملون هذا الطوفان من الحقد والكراهية واللؤم المتأصل؟
كان ياما كان في قديم الزمان مجرم أوروبي قادم من إيطاليان يبحث عن صيد ثمين في البحار والخلجان ويساعده الأسبان، شاءت الصدف أن يصل بلادا آمنة ويفترس أهلها ويمزق حياتهم ويستعبد رجالهم ويبيع نساءهم والغلمان، هذا المجرم الذي يحتفل به كل عام في بلاد الضلال اسمه كريستوفر كولومبوس أو (الفامباير كولومبوس)، وتروي الأسطورة الكاذبة أنه (اكتشف( القارة الشمالية وجلب الحضارة الى الاوباش وعلمهم التحضر والرقيان .
كلمة الاكتشاف هنا والتي تبدو عملا علميا منهجيا وإنسانيا عظيما رافق حقبة الصعود البشري في القرون الماضية ليست إلا تسمية مواربة لعملية خداع كبرى للتاريخ والبشرية وليست إلا عملية تزوير لإسم جريمة واحدة تضم في داخلها كل الفظائع والبشاعة البشرية ، فاستخدام هذه الكلمة يلغي بكل بساطة كل التاريخ السابق للسكان الأصليين ويمنح (المكتشف ) حقوق الملكية كاملة للأرض والإنسان والحضارة والثروات عليها ويفعل بهم ما يشاء تحت حقوق باطلة أنه (اكتشفهم ) وسبق الكل في هذا الاكتشاف ، عملية الاكتشاف هذه هي الإسم المحسن لجملة مصطلحات تقع في جوف هذا الحدث المرعب ( الامبريالية – الكولونيالية – الإبادة – التطهير العرقي ) ، كانت كل عمليات الاكتشاف الأوروبي لافريقيا و القارة الشمالية والجنوبية وآسيا هي محطات الانتهازية والجريمة الحضارية القصوى وهذا ما حصل .
في زمان كولومبوس ومع جلبه المزيد من الاوروبيين المتوحشين والمتعطشين للدم والقتل والثروات والذهب إلى الأرض الجديدة التي (اكتشفها ) كان لا بد من تصريف وجود الملايين من هؤلاء الأبرياء فتم عقد حملات (التطهير ) وفقا لثقافة التزمت الديني المستحضر من قمقم الماضي ليمنح الحاضر شرعية القتل ويزيل عقدة الذنب عن الروح الرأسمالية ، وبذلك تم فرم مئات الألوف في مجازر اشتغلت فيها البنادق والسيوف والمدافع وهي الأجداد الأولى لأدوات الموت الاسرائيلية أو الأمريكية الحديثة التي ورثتها الإف 35 والاف 16 ، المذبحة الأكبر التي ارتكبها أجداد بايدن وبلينكن ونتانياهو وجالانت وبن زفير وماكرون كانت بعقد أول حرب جرثومية شاملة في التاريخ حيث تم نشر الأوبئة المتأصلة في أجساد الأوروبيين على أقصى نطاق ممكن في السكان الأصليين ، في آبار الشرب والمياه والمحاصيل وتم جلب الأغطية الملوثة بالكوليرا والسل والدفتيريا والجمرة الخبيثة والحصبة والانفلونزا من المصحات الاوروبية المتعفنة وأهديت الى قبائل الهنود بعد عقد ( الصلح ) معهم كعربون محبة وتآخي ، كانت النتيجة قتل 80% منهم ، عقب هذه الحملات جرت حملات الإبادة ذات الطابع الترفيهي وعُرِضت مكافات على رأس كل ساكن اصلي يتم جلبه ، ولذلك نشطت فرق إعدام مؤلفة من حفنات المجرمين الأوربيين لمطاردة الاطفال والنساء والرجال وقطع رؤوسهم والحسبة على الرأس ، وعندما صار وزن هذه عبئا ابتكروا فكرة جهنمية يتم فيها تخفيف الحمولة وذلك بسلخ فروة الرأس ، فأصبحت مكافأتك حسب عدد فروات الرأس التي تجلبها ، كانت حصيلة نقل (الحضارة والمدنية والتطور وحقوق الإنسان) إلى قلب الأمة الهندية المسكينة هي الفتك التام بهم حيث انخفض تعدادهم السكاني خلال دورة زمنية من 150 مليون إلى اقليات منتشرة في امريكا الشمالية بأقل من مليون مواطن ، ومن لم يمت بالسل والكوليرا والحصبة والانفلونزا تم اجباره للعمل في المناجم والمزارع بأقل من درجة الحيوانات مما دفع معظهم للانتحار للهروب من هذا الجحيم .
هذا هو التاريخ الموجز لما فعلوه في الماضي وهذا هو نفسه ما يحدث اليوم في غزة وما سيحدث في أية عاصمة عربية أو عالمية في جدول محكم ومرسوم بإصرار ، في الواقع ان الصورة الحديثة التي لم ينقطع حبلها السري مع الماضي جلبت لنا الرئيس بايدن أو ترامب او ايا كان الاسم وهو الوريث والحفيد إكس للجد القاتل كولومبوس ، وكما اكتشف ذلك القارة الشمالية حسب سردية الاكذوبة فنحن بصدد حملة استشكافية جديدة لبلاد العرب مستشفة من روح الأصالة كي يتم منحها للمستوطنين البيض الجدد الذي جلبوا معهم التحضر والرقي للسكان الأصلين الهمج أو الحيوانات بعد إزالتهم وقتلهم وتنظيف الأرض منهم !
عمليات قتل النساء والأطفال ليست شيئا طارئا ولا مفاجئا فهي عقيدة مبيتة وثابتة عادت من جديد بعد طقوس الرقصات القربانية التي قدمها بلينكن وسوليفان وسونار وماكرون على شاشات التلفزة لفتح شهية الدم لإعادة (اكتشاف ) الأرض العربية وانكار حقيقة البشر المقيمين على ارضها ، عمليات القصف اللامتوقف بلا هوادة للمساكن وقصف المشافي وحرمان الناس من الطعام والدواء والماء والعلاج يهدف الى نشر الأوبئة تماما كما فعلت البطانيات الانجليزية المهادة الى القبائل المُتصالَح معها ، عمليات التجويع والدفن الجماعي والحصار حتى الخنق كلها تجارب إبادة مستنسخة من الأجداد الأوائل يعيد إحياءها هؤلاء المهاجرون الجدد إلى بلادنا واراضينا التي ادعوا أنهم (اكتشفوها ) قدوة بما فعل كبيرهم الذي علمهم (الاكتشاف).
خلال ممرات العقود الماضية الأقرب إلينا كررت الولايات المتحدة (اكتشاف ) العراق وأفغانستان ومن قبلهما كوريا وفيتنام واليابان والعديد من الضحايا ونقلت إليهم ( التحضر ) و(التمدن ) و( الحريات ) و(الرفاه ) وذلك لتخليص هذه البلاد من آلامها وبمعية هذا الخلاص أهدت اليابان النظائر المشعة واهدت العراق اليورانيوم المنضب كبديل لبطانيات الحصبة والتيفوئيد ، واهدت فيتنام سموما لا ينتهي مفعولها قبل قرن آخر والقصص لا تنتهي بآلامها وعذابها .
لقد بعث التاريخ أحفاد المجرم كولومبوس في رحلة استكشاف جديدة ليعيدوا دورة القتل والابادة في الزمان لكن التاريخ لم يغفل أن يضع المضاد الطبيعي لإيقاف هذه الظاهرة وزرع بذور نهايتها ليضع لها حدا أخيرا بعد أن تعلم الدرس ، لهذا السبب جاءت المقاومة الفلسطينية لتكون لعنة على هؤلاء وترسم حدا لزعرنتهم التاريخية ، لقد ساق الله هذه المقاومة لتنوب عن الهندي الأحمر والفيتنامي والياباني والعربي العراقي واللبناني ليأخذ بثأرهم جميعا وسينضم إليها العربي اليمني واللبناني والعراقي والمصري والسوري مرة أخرى .
بالأمس في البريج والمغازي قتل الغزاة صفا بالمئات من الشهداء والباقي ينتظر تحت الأنقاض لكن المقاومة الفلسطينية سلخت فروة خمسين او ستين منهم خلال يومين وتمكنت من شوي بعض الدبابات والاليات وحدد السنوار الرسالة الوحيدة واليتيمة لجيوش كولومبوس الجديد بأننا سوف نهشمكم ونحطم عزيمتكم وندفنكم في غزة في محرقة المدينة ، وصدق السنوار النائب الحي عن التاريخ وصدقت الرؤى ونبؤات الكتب في رؤية نهايتهم .
ما يجري في غزة هو نسخة مصغرة عن بعثة كولومبوسية جديدة تستهدف (اكتشاف ) المنطقة العربية وإعادة تأهيلها للحملة الكولونيالية الجديدة من خلال قتل الطفل الذي يشكل تهديدا عليهم عندما يكبر ، وقتل المراة الفلسطينية والعربية التي تنتج لهم هؤلاء المقاتلين الفولاذيين ، وإذلال الرجال ليكونوا عبرة لكل العرب والعالم حول سطوة (الاكتشاف ) ورهبته ومدى فاعليته ، لسوء حظهم أن التاريخ تغير ونضج ودخل مرحلة الحكمة القصوى ووضع في كتابه نهاية الحكاية التي طال عليها الأمد وطال فيها ليل العرب وطال فيها أيضا سبات هذا العالم ، غزة لن تنكسر ، وشعوب العرب ستصحو ذات لحظة وها هو اليمن العربي يعيد إيقاظ كل الأمة ويهز قواعد الحملة الجديدة على بلاد العرب التي تستهدف مصر أولا ولبنان والأردن وكل دول الخليج التي يدفع بعضها ثمن جهود كولومبوس المجرم ولكن ذلك لن يعفيهم من المذبحة .
من يراهنون على سقوط حماس والمقاومة لم يفهموا التاريخ بعد ولم يفهموا أبدا ما يجري ، بايدن ونتانياهو والكائنات العربية الدقيقة والأبواغ الأوروبية الصغيرة وحشراتت الخيانة الزنانة التي تساند الخطة الكولومبوسية الاستشكافية الجديدة ليسوا سوى ديكورات ضرورية وضعها التاريخ لإستيلاد القادة والأبطال والعظماء الجدد للتاريخ العربي الجديد الذي سيطوي غزاوات الاستكشاف ويعيد للعالم العدالة والحرية والانسانية .
*كاتب فلسطيني
شاهد أيضاً
ترمب ومعضلات الشرق الأوسط!
د. سنية الحسيني* من الواضح أن الشرق الأوسط الذي خرج منه دونالد ترامب في مطلع …