د. طارق ليساوي*
غزة وطوفانها العظيم ومقاومتها الباسلة وصمودها الأسطوري، أسقطت كل الأقنعة في مقدمتها أقنعة الحضارة الغربية وتوحشها ونازيتها وعنصريتها، فكثير من المسؤولين في دول العالم وخاصة الغربية يعيشون في حرج وخجل وتأنيب ضمير وقد رأينا مسؤولين ومنتخبين في برلمانات ومؤسسات غربية، يرون أنفسهم وبلدانهم جزءا من معادلة الإبادة الجماعية، وأنهم يبيعون عقولهم ومواردهم وذخيرة بلدانهم وتاريخ حضارتهم لشرذمة وعصابة دموية متطرفة، ويطرحون أسئلة ساخنة وعميقة عن السبب والمقابل الذي تحصل عليه بلدانهم وشعوبهم من هذا الدعم السخي والمبالغ فيه للكيان الصهيوني..
الضيف الكبير:
لكن الحال مع “الضيف الكبير” للمغرب السيد ماكرون إيمانويل مختلف جدا، فهذا الرجل يتقن فن اللعب على كل الحبال، و لكن الشيء الثابت والمؤكد في أجندته وسياسته المكشوفة والمفضوحة، الهجوم على الإسلام والمسلمين والحرص على تزييف الحقائق، والحنين للعصر الإمبريالي، فالرجل لازال يراوده وهم الإمبراطورية الفرنسية وإفريقيا الفرنسية، والتي نجحت شعوبها السمراء في التخلص من الهيمنة والاستغلال والنهب الفرنسي، لكن لازالت المنطقة المغاربية عاجزة عن تجاوز الحقبة الاستعمارية السوداء وإرثها السيء الذكر ..
ad
عملية همجية:
فالسيد ماكرون الذي استقبل استقبال الفاتحين، وصف يوم الثلاثاء 29-10-2024 ومن داخل البرلمان المغربي، عملية حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على الاحتلال الإسرائيلي بـ”الهمجية”، فيما دافع عما اعتبره: “حق إسرائيل في الرد”.وفي السياق نفسه، أبرز ماكرون: “لا شيء يبرر حصيلة القتلى في غزة من المدنيين”، مطالبا بـ”وقف فوري للحرب”، بالقول: “الشرق الأوسط يعيش في متاهة، لذلك يجب وقف إطلاق النار في غزة ولبنان”.وأشار ماكرون: “طالبنا بذلك منذ نوفمبر الماضي، من أجل تحرير الأسرى وحماية السكان والسماح بوصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة”.
تناقض سريالي:
وعطفا على تصريحات هذا المسمى ماكرون، لابد من التأكيد أن المقاومة حق مشروع مادام هناك إحتلال.. فما من شعب تم إحتلاله إلا ولجأ للمقاومة المسلحة لتحرير وطنه.. ففرنسا مثلا الذي يحاول “ماكرونها” وصف المقاومة بالإرهاب، عندما تم إحتلالها من قبل ألمانيا قاومت الاحتلال بقيادة “شارل ديغول”.. فهل ما قمتم به هو مقاومة وإنجاز تاريخي تمجدونه، وما تقوم به المقاومة الفلسطينية هو إرهاب ينبغي إدانته، “ما لكم كيف تحكمون”؟
ديغول إرهابي :
فالرئيس الفرنسي ماكرون ومعه دولة فرنسا تعاني من “تناقض سريالي” فعندما تتعامل مع تاريخ فرنسا قبل 80 عاما، وتحديدا الاحتلال النازي لفرنسا في سويعات معدودات، يتم تمجيد والاحتفاء بتاريخ وبطولات ” المقاومة الفرنسية ” بقيادة الجنرال ديغول ضد الاستعمار الألماني النازي بقيادة هتلر… في حين تعتبر مقاومات الشعوب المستعمرة، ومنها الشعب الفلسطيني اليوم، عمليات همجية بربرية، وبذات المنطق فينبغي التأكيد أيضا، بأن الجنرال ديغول ومقاومته إرهاب وهمجية بربرية تبعا للمنطق الماكروني “المختل”.
المقاومة حق مشروع:
وهنا ندعو ماكرون ومن على شاكلته، إلى العودة ل “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الصادر في 26 أغسطس/آب 1789 (أي في أعقاب انتصار الثورة الفرنسية التي أسقطت الملكي)، وخاصة المادة 2 التي تنص بالحرق على أن: “مقاومة القمع هي حق أساسي، وللفلسطينيين حق المطالبة به”.
حق تقرير المصير:
كما أن حق تقرير المصير يعد حقاً ثابتاً في القانون الدولي، ومبدأ أساسي في ميثاق الأمم المتحدة، والتي في قرارها رقم 1514 لـ “إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة”، بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول 1960، أكدت بصفة صريحة أنه “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعي بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”.
ويشمل هذا الحق القضية الفلسطينية، وهوما يؤكده القرار الأممي 3236، بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، والذي نص على أن الأمم المتحدة “تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه (…) وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق”.
مقاومة الاحتلال بكل الوسائل:
وقبل هذا، وفي عام 1970، أصدرت الأمم المتحدة القرار رقم 2649 بـ “إدانة إنكار حق تقرير المصير خصوصاً لشعوب جنوب افريقيا وفلسطين”، والذي ينص بالحرف على أن الجمعية العامة “تؤكد شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها”.
كما أكدت الجمعية العامة على شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية، وربطتها وقتها بما كانت تعيشه ناميبيا وجنوب إفريقيا من أنظمة فصل عنصري، أيضاً في قرارها بتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 1986، والذي ينص “على شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح”.
حمل السلاح لمقاومة المحتل:
وفي نفس السياق، تؤكد كل من اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية أسرى الحرب، على شرعية حمل السلاح لمقاومة المحتل. وأضفت اتفاقية جنيف صفة “أسرى الحرب” على أعضاء حركات المقاومة المنظمة “التي تعمل داخل أرضها أو خارجها وحتى لو كانت هذه الأرض واقعة تحت الاحتلال”، وذلك بشروط، أولها أن يكون لهم رئيس مسؤول، وأن يحملوا السلاح علناً، أن يحملوا علامة مميزة ظاهرة، وأن يلتزموا في نضالهم بقوانين الحرب وأعرافها، وهي كلها شروط تنطبق على المقاومة الفلسطينية..
إرهاب الدولة:
ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أن كل الشرائع السماوية نصت على أن مقاومة المحتل والبغي والظلم حق مشروع..وما أريد التأكيد عليه أن ما قامت به حركة حماس هو مقاومة مشروعة وتنطبق عليه شروط وضوابط مقاومة المحتل الأجنبي.. وفي مقابل المقاومة المشروعة التي يحاول البعض وصمها بالإرهاب ..هناك الإرهاب الفعلي والواقعي الذي تمارسه إسرائيل في غزة وفلسطين عموما، وهو من أخطر وأشنع أنواع الإرهاب، ويندرج ضمن ما يصطلح عليه ب “إرهاب الدولة”
فإرهاب إسرائيل” الديمقراطية ” تمارسه ضد شعب محتل في دولة تقوم على التمييز العنصري الذي يقدم أساسًا نظريًّا لاستباحة المدنيين استباحة كاملة؛ لأنه ينزع عنهم صفة الإنسانية أو يراهم أدنى عِرقيًّا أو دينيًّا بل يراهم بأنهم “حيوانات بشرية ” كما وصفهم مجرم الحرب وزير حرب الكيان الصهيوني ” يواف غالانت” ..
ماكرون يخاف ولا يستحي:
والواقع يقال فهذا الماكرون الذي “صفعه” قبل أيام لنتنياهو، بعد تصريحات صرح بها ولها صلة بلبنان، “يخاف ولا يستحي”، وما كان ليملك الشجاعة لوصف المقاومة بالهمجية من داخل البرلمان المغربي، لولا انه شهد “حفاوة جماهيرية” ورسمية إستقبلته إستقبال الفاتحين، والواقع أن ما شهدناه في شوارع الرباط لم يكن حضورا جماهيريا عفويا، فنحن أبناء الرباط وبها مقر عملي وأقطن في ضواحيها، ونعلم جيدا كيف تم حشد الجماهير، وشرح الواضحات من المفضحات ..
علال بن عبد الله:
فالرباط يوم الزيارة المشهودة لرئيس الدولة التي إستعمرت البلاد وقتلت المقاومين وعلى رأسهم الشهيد علال بن عبد الله، الذي مر الموكب الرسمي بمحاذاة الشارع الذي يحمل إسمه “شارع علال بن عبد الله”، فالعاصمة منذ الساعات الأولى من الصباح رجعت لسنوات وعقود للوراء.. فالآلاف من ساكنة المغرب العميق يحطون الرحال بعاصمة الأنوار.. وللأسف معظمهم يتسول مراحيض المقاهي لقضاء الحاجة!! فيما لاذ البعض الآخر بمراحيض بيوت الله التي لا تفتح أبوابها إلا في أوقات الصلاة طبقا لقرار الوزير المخلوع إدريس البصري في تسعينات القرن الماضي، كما أن أشهر هذه المساجد وأقربها لمحطة الحافلات مسجد محطة أوطوهول الشهير بإمامه ياسين كصوان، لا يتوفر على مرحاض منذ إعادة تهيئته قبل سنوات خلت اللهم مكان مخصص للوضوء فقط !!!
مفارقة غريبة:
وقد كنت شاهدا على هذه المفارقة الغريبة والعجيبة، حشود غفيرة تم حشدها في الحافلات والباصات لمدينة الأنوار، التي تعاني ندرة شديدة في المراحيض العمومية ..فهذه المدينة التي شهدت في العقد الأخير طفرة عمرانية وجمالية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، المدينة تغيرت رأسا على عقب، وأصبحت تتوفر على بنية تحتية على مستوى رفيع، لكن للأسف صناع القرار في بلادنا تحكمهم وتسيطر عليهم ذهنية ” العكر على الخنونة” بمعنى الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر وإهمال الجوهر، فمدينة الأنوار تعاني من ندرة شديدة للمراحيض العمومية بعدد من الأحياء الرئيسية للمدينة. فباستثناء مرحاض عمومي قديم يوجد في باب الأحد وآخر بساحة المأمونية، وسط العاصمة، لم تُقدم السلطات المحلية على توفير مراحيض عمومية جديدة في مستوى المشاريع المهيكلة التي تعرفها المدينة في السنوات الأخيرة بتكلفة مالية ضخمة، وهو الأمر الذي يضطر زوار الرباط إلى اللجوء لمراحيض المقاهي وبعض المؤسسات العمومية من قبيل محطة القطار الرباط- المدينة لقضاء حاجاتهم، في الوقت الذي سبق لعدد من الجمعيات أن وجهت مراسلات إلى مجلس المدينة تُنبه من خلالها إلى الآثار الوخيمة لغياب هذه المرافق، زيادة على تأثير هذا الأمر على الوجه السياحي للمدينة..فزيارة ماكرون سبب مشاكل لأصحاب المقاهي وخاصة المراحيض، فبعض هؤلاء يتشددون في تأمين هذه الخدمة لأسباب تخصهم، ما سبب الحرج والضرر معا لزوار المدينة وحتى لساكنتها …وهنا أهمس في أذن المخزن وخدام الدولة عندما تكون البلاد بصدد استقبال ضيف كبير مستقبلا، فعلى الأقل ليتم وضع مراحيض متنقلة لعباد الله لقضاء حوائجها البيولوجية ..
حشود عفوية:
ومقابل هذه الحشود المصطنعة التي سُلِطت عليها أضواء العدسات، هناك أيضا حشود عفوية شهدتها عدد من المدن المغربية، خلال الساعات القليلة الماضية، خرجت لتنديد بزيارة الرئيس الفرنسي، فيما علت أصوات الانتقادات أكثر، على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، عقب تصريحه بخصوص “طوفان الأقصى” من داخل البرلمان، في العاصمة المغربية، الرباط..وأعتقد جازما أن ماكرون وأجهزته السرية والعلنية تعلم جيدا موقف غالبية المغاربة، والذي لا يختلف كثيرا عن موقف قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي المتعاطف مع غزة والمناهض للإجرام الصهيوني والدعم الغربي والعربي لجرائم الاحتلال ..
محاكمة الدولة الفرنسية:
وفي الختام، ينبغي التأكيد على أن فرنسا إرتكبت جرائم بشعة وهمجية وبربرية بحق المغاربة والجزائريين والمغاربين والأفارقة خلال الحقبة الاستعمارية، وينبغي أن تتجه جهود الشعوب المستعمرة وقياداتها ونخبها الحية والوطنية حقا وحقيقة، بإتجاه رفع دعاوى دولية أمام المحاكم الوطنية والدولية ضد الدولة الفرنسية على تلك الجرائم والإرهاب الذي مارسته فرنسا وقياداتها في حق الشعوب التي تم إحتلالها طيلة الحقبة الإستعمارية، وترتيب الجزاءات والعقوبات القانونية والمالية والاقتصادية بحق فرنسا وأداء تعويضات لشعوب الدول الضحية للإرهاب الفرنسي الاستعماري… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
*كاتب وأستاذ جامعي مغربي