العميد.محمد الحسيني*
يُحدثنا المؤلف أو المؤلفون للكتاب المقدس اليهودى (التناخ)، أنّه عندما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان وحاصروا مدينة “أريحا”، هُدمت أسوار المدينة بواسطة النفّخ في الأبواق والصياح عالياً، بعد أن توقفت لأجلهم الشمس، فهاجموها وأثخنوا فيها قتلاً بحيث لم يميّزوا في ذلك الحين بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وحتى البهائم، ثم أحرقوا المدينة وهدموا منازلها، كل ذلك بأمر من الرّب “يهوه” وبقيادة “يوشع بن نون”، الذي تابع معارك الغزو إلى الشمال الكنعاني فاستولى على”حاصور” (شمال شرق صفد) وغيرها من المدن، إذ قام بعدها بتقسيم الأرض التي سيطر عليها من الكنعانيين بين الأسباط ال12، وطلب أن يأخذ لنفسه إحدى البلدات فأُعطيت له…
منذ ذلك الوقت استقر بنو اسرائيل في الأراضي التي احتلوها، غرباء على الحياة الكنعانية، في حرب دائمة مع محيطهم الدخلاء عليه، فعاشوا على هامش الحضارة الكنعانية في جزء من فلسطين التاريخية، تحت حكم القضاة القبلي حيث كان القاضي هو شيخ القبيلة، واستمر الوضع على حاله لحوالي أربعة قرون حتى كانت لهم أول مملكة أسسها “شاوول” من نسل بنيامين، الذي تُوّج أول ملك على الإسرائليين، وتم استعمال “التقليد الفرعوني” في مراسم التتويج وهو المسح بالزيت: “وبعد مسح الملك يصبح مسيحاً مُقدساً” ( صموئيل الأول 9:26) ليَحكُم على كل إسرائيل الموحدة…
ويتابع “التناخ”، كان “داوود” ضمن جيش “شاوول” الذي أصابته الغيرة منه بسبب تحقيقه انتصارات ضد الفلسطينيين، فهرب منه “داوود” إلى الضفة الغربية حتى نهر الأردن، ليشكل عصابة مسلحة للغزو، وعمل مع مرتزقته في خدمة الفلسطينيين الذين كانوا في حرب شرسة ضد مملكة إسرائيل…وتمكن داوود مع مجموعته من المرتزقة وبواسطة المؤامرات والخدع السياسية من إنهاء حكم أسرة “شاوول” واستلام العرش، بعد أن تزوج “ميكال ابنة شاوول” واستطاع تحجيم دور الكهنة ونفوذ الأنبياء الكُثُر، فجمع بين يديه السلطتين الدينية والزمنية…ويرسم”التناخ” شخصية “داوود” فيصفه بالداهية السياسية، يُضحي بالأشخاص لتحقيق مآربه، ويعقد التحالفات حتى مع أعداء شعبه، وكثيرًا ما أظهر ورعًا زائفًا، بينما كان يسعى لتحقيق مصالحَ دنيويةٍ بحتة، لكنه المختار من “يهوه” شخصيًّا، وَضَعه في مصافِّ القديسين: “لأنّ – يهوه – قد غفر له كل خطاياه وآثامه، والسبب أنّه كان شديد المَلاحة عظيم السمت جميل الطلعة”، وفنان أيضًا يُنشد المزامير على آلات الطرب، “وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر … يُحسن الضرب بالعود” (صموئيل أول، ١٦: ١٢، ١٧).
ويزعم “التناخ” أنّ داوود تمكن في سنواتٍ قلائل، من إقامة دولةٍ كبرى، أخضعت جيرانها مثل بلاد آدوم وموآب وعمون، بل وأجبر الأراميين في دمشق على دفع الجزية، وأخذ أورشليم من اليبوسيين واتخذها عاصمة لملكه، وجعل للرّب “يهوه” مقرًّا ثابتاً، بنقل التابوت المتجول، الذي ينام فيه “يهوه”، من حالة البدو الرُحّل إلى حالة الاستقرار المدنيّ في مدينة تم تقديسها لنزول الإله بها، فأعطى بهذا مدينة “أورشليم” قدسية لتصبح رمزًا لوحدة إسرائيل، رغم أن هذه القدسية كانت قبل ذلك في جبل “حوريب” المقدس بسيناء، حيث تجلَّى الرب لموسى… لينتقل بكل سهولة ودهاء من “داوود” إلى “أورشليم”… وورث “سليمان داوود”، ومما ذكره “التناخ” أنّ جيش “سليمان” بعد حكمه الطويل قد تراخى لانعدام الفتوحات، كما اضطرّ للتنازل عن بعض الأقاليم من مملكته لرد ما عليه من ديون للممالك المجاورة، وذلك كله بسبب اهتماماته الدنيوية وحياة البذخ التي عاشها (سفر ملوك أول 10:9-13 و 11:14-22).
بعد وفاة “سليمان” خَلَفَه ابنه “رحبعام بن سليمان” الذي انحسر مُلكه عن “إسرائيل الكبرى أوالموحدة” بسرعة بعد مئة عام ويزيد على تأسيسها، حين قام النبي “أخيا الشيلوني” على التآمر مع “يربعام” للقيام بثورة ضده، فاستقل بعشرة أسباط، وأقام مملكةً شمالية عُرفت باسم إسرائيل، وترك الجنوبية “لرحبعام بن سليمان”، وهي التي عرفت بمملكة يهوذا، ويبرّر الرّب “يهوه” فعلته: “لأنّهم تركوني وسجدوا لعشتروت إلهة الصيدونيين “…(ملوك أول 33:11) وتفككت دولة إسرائيل الموحدة أو كل إسرائيل إلى دولتَين، غالبًا ما كانتا بعد ذلك متعاديتَين…
يُستَدَل من كل هذا أنّ “التناخ”، جعل من “يهوة” ربّاً طيّ إرادة اليهود، فهو يغضب على أهل “أريحا” فيأمر بإبادتهم، ويَنتبه فجأة وبعد قرون من الزمن بأنّهم في حاجة إلى ملك، فيكون لهم ذلك وعلى طقوس عدوهم القديم “فرعون”؟… وأحب “داوود” فقط لأنه وسيم وفنان، فغفر له ما تقدم وما تأخر… ويُبدّل مسكنه من جبل “حوريب” إلى “أورشليم” لأن “داوود” أراد هذا… كما أنّه يُحيك المؤامرات، فتآمر مع “داوود” على “شاوول” ومن ثم مع “يربعام” ضد “رحبعام بن سليمان”. وعلى الرغم من سجودهم لآلهة الكنعانيين فإنه عاقبهم بالتقسيم لا غير، ومن ثم أصبح مزاجياً فعاقب مملكة السامرة أو إسرائيل في الشمال بالخراب، بينما ترك مملكة يهوذا في الجنوب؟ وانطلاقاً من هذه “الميثولوجيا” يعتبر اليهود المعاصرين أنفسهم أنهم يتحدرون من المملكة الجنوبية…كما سمح “يهوه” لهم بالتماهي مع الثقافة الفرعونيّة وتقليدهم لها في كثير من العادات: تنصيب ملك عليهم، مراسم التتويج باستخدام المسح بالزيت، دمج السلطتين الدينية والدنيوية في يد الحاكم، الموسيقى في الاستخدام الديني…وأخيراً وليس آخراً تساهل مع “سليمان الحكيم” في حياة الترف والبذخ التي عاشها، على حد زعمهم في “التناخ”…
هذه السردية التاريخية لما ورد في “التناخ” هو جزء يسير لما أسس عليه الكثيرون من معتقدات باطلة ومعلومات تاريخية خاطئة ومزيّفة حول تاريخ الشعوب القديمة التي عاشت في فلسطين والمنطقة…فجاء “علم الآثار” (Archaeology) ليُثبت عكس ذلك حين أعطى صورة مختلفة تماماً عن تلك التي قدمها “التناخ” بناء على الشواهد التاريخية، حيث تبين من خلال هذا العِلم ما يلي:
أنّ أعمال التنقيب التي تمت في موقع أريحا أظهرت، عدم وجود آثار بشرية سكنية في القرن 13 قبل الميلاد (الفترة المفترضة للمعركة حسب الديانة اليهودية)، ولم يُعثر على أي دليل أو آثار تدل على حدوث تدمير للبلدة قبل تخلي سكانها عنها تدريجياً. وبالرغم من هذا فإن الصهيانة يُدرّسون المعارك التي خاضها “يوشع” في معاهدهم العسكرية…
طبيعة المعثورات الأثرية أدت إلى فكرة أن توحيد مملكتّي إسرائيل ويهوذا لا يعدو كونه اختراع لكتبة “التناخ” بدوافع أيديولوجية، وأنّ وصف المملكة الموّحدة في الكتاب المقدس اليهودي مبالغ فيه لصالح الدعاية الدينية والسياسية، لكن هناك دلائل لوجود مملكتين منفصلتين لم تتوحدا، وذلك على رأي أكثرية المؤرخين والأثريين، أبرزهم البروفيسور “إسرائيل فينكلستاين” من جامعة تل أبيب والمؤرخ “نيل آشر سيلبرمان” من بوسطن، وبالتالي تتناقض مع الروايات حول مملكة “داوود” الموحّدة والتوسع والفتوحات التي قادها، والتي يُدرّسها الصهاينه لطلاب المعاهد والجامعات، بالاضافه إلى قناعتهم ب”يهودية” الضفّة الغربية لأن “داوود” هرب إليها مؤسساً لعصابته…
يعتبر مؤرخون كُثر أنّ سفر صموئيل الثاني، يحتوي على إصحاحَين هما رقم 8 و10، واللذيّن يرويان قصة داوود في “التناخ”، مقتبسان بالكامل من قصة فتوحات “تحتمس الثالث”، وهو سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويُعتبر مؤسس الإمبراطورية المصرية الحديثة في ذلك الوقت، حيث وصلت حدود مصر إلى نهر الفرات وسوريا شرقا وإلى ليبيا غربا وإلى سواحل فينيقيا وقبرص شمالاً وإلى منابع النيل جنوبا، ظلت تلك الأمبراطورية حتى نحو عام 1070 قبل الميلاد لغاية عهد رمسيس الحادي عشر، تاركاً الآثار العديدة الدّالة على فتوحاته، كذلك الإصحاح الخامس يحوي على جزء يتعلق برواية استيلاء “داود” على مدينة القدس، التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل لدخول “تحتمس الثالث” لمدينة أورشليم.
ليس هناك دليل على المكان الذي بُني فيه الهيكل أو حتى على آثار يُستدل بها لأساس وجوده، جُلّ ما يُقال هو تكهنات، فمنهم من يرى أنّ موقعه هو في بيت المقدس تحت قبة الصخرة، بينما يرى آخرون أنه بُني خارج ساحات المسجد الأقصى، ويقال أنّ هيكل “سليمان” موجود تحت بيت المقدس؟ ولهذا أراد اليهود قبل سنوات قليلة هدم المسجد الأقصى للبحث تحته عن هيكل “سليمان”.
من هذا المنطلق التاريخي المُلتبس والزائف أقدم الصهاينه على اختيار اسم “إسرائيل” للدولة الصهيونية- اليهودية عند إنشاء هذا الكيان في العام 1948 وليس “يهوذا” أو “السامرة” على سبيل المثال، لأن مشروع “مملكة إسرائيل الكبرى أو الموحدة” بحدودها كما وردت في “سفر حزقيال” راسخ في معتقداتهم، ويرون في انقسامها تاريخياً إلى دولتين إنما هي لعنة حلّت على اليهود نتج من بعدها خراب الهيكل… من هنا جاء تطيّر اليهود عامة من مشروع “الدولتين” حيث يحضر بقوة “هاجس” انقسام مملكتهم، كما وتتناقض مع أحلامهم في استعادة وهم “اسرائيل الكبرى”…لذا بمجرد طرح فكرة أو مشروع الدولتين سواء كانت دولة يهودية في دولتين… أو دولتين الأولى إسرائلية وأخرى فلسطينية، فيما عُرف ب “حلّ الدولتين” إنما هو سراب وأوهام بأوهام … لا يستفيق منها إلاّ من عَرَفَ وتيّقن جيداً أنّ الفكر الصهيوني مُتجذّر في الكتاب اليهودي (التناخ)، وبأنّ هذا الفكر هو من يقود “التناخ” إلى حيث يشاء…فيدور معه كيف ما دار….
*كاتب لبناني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …