د. لينا الطبال*
وأخيرا قررت فرنسا أن تعترف بدولة فلسطين. حقا، متى؟
في الشهر الذي تتساقط فيه أوراق الشجر وينبت فيه الكذب على ضفاف نهر السين، يأتي اعتراف فرنسي خجول تأخر سبعة عقود… وبريطانيا التي سلّمت أرض لا تملكها قررت أن تعترف أيضا… لكن القرار رقم 67/19، الذي صوتت لصالحه 138 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، قد منح فلسطين صفة “دولة غير عضو بصفة مراقب”، مثلها مثل الفاتيكان. وعلى أساسه، استطاعت فلسطين الانضمام إلى منظمات ومعاهدات دولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية واليونسكو.
لا بأس، أنتم الأوروبيون تعدّون 450 مليون نسمة، واقتصادكم يساوي 20 ألف مليار دولار، وزن ثقيل في البورصة والأسواق… ومع ذلك، هل يمكن لحكوماتكم أن تزن كيلوغرام من العدالة؟ من الكرامة؟ اعتراف تأخر سبعين سنة؟ هذا هو عرضكم؟ أنتم لا تهدون فلسطين شيئ… هذا كل ما جئتم به؟!
هل هذا الاعتراف سيوقف دبابة؟ هل سيمنح العائلة دفء الأم التي غابت؟ هل سيرجع الأطفال؟ طفل واحد على الأقل؟
أجل، أوروبا تحب فلسطين… لكن من بعيد. أنتم تعرفون أن إسرائيل ستلتهم ورقة الاعتراف هذه كما تلتهم الضفة… كفى الان، العالم لا يحتاج إلى المزيد من البيانات، نحن نحتاج فقط إلى أن تتوقفوا عن تسليح القاتل.
هذا الاعتراف هو موقف كاريكاتوري، فلسطين بحاجة إلى نهاية هذا التواطؤ. الأمم المتحدة تدين إسرائيل بشكل يومي. هل تغير شيء؟ مجاعة في غزة، إبادة، جرائم، وجوع… ثلاثة ألوان تطغى: رمادي الدمار، أحمر القتل، والذهبي اللامع الذي يرافق الكارثة، لأنه يمثل البورصة التي تربح من الدمار. لا نحتاج منكم إلى المزيد من البيانات، خطواتكم الشجاعة احتفظوا بها…
جيفري ساكس ليس ثوري، هو خبير، رجل يقول الحقيقة الوحيدة: “أوقفوا السلاح، تنتهي الحرب”.
الحل يبدأ من هنا وبكلمة واحدة: المساءلة. مساءلة إسرائيل، مساءلة كل من يدعمها، وإيقاع العقوبات. أليس رئيس وزرائهم متهم؟ فليُساق إلى لاهاي مكبّل اليدين، ولتبدأ المحاكمات! هذا، إذا كنتم تؤمنون أصلا بشيء اسمه سلام.
الخطوة الوحيدة التي تعني شيئ لهذا الشرق المنكوب: إسرائيل منزوعة السلاح !
لكن ما حيلة أوروبا أمام القوى العظمى التي تحكم العالم، وتفعل ما تشاء: إدارة ترامب إمبريالية صريحة بلا خجل وقالها علنا: “سنفعل ما نريد، أنتم لا تساوون أي شيء”. كل هذا حدث لأن العالم الغربي اختار طريق الأحادية القطبية !
دعونا لا نُضيع وقتنا اليوم في جلد أبو مازن… لا حاجة لصفع جثة سياسية، يكفي أن التاريخ سيحكم عليه. وأيضا أوقفوا الصراخ “أين العرب؟” لأنه سؤال غبي. العرب، يا صديقي، اختفوا… هكذا لم يبقَ منهم إلا أنت وأنا وقلة من المؤمنين، من الحالمين، يُعدّون على الأصابع. انقرضوا، كما انقرضت الكائنات القديمة… لا تسألوا عنهم.
حدث كل هذا لأن العالم الغربي قرر السير باتجاه إمبراطورية واحدة، لا تُشبهه ولا تحترمه. كان يمكن لأوروبا أن تمنع هذه الحرب أو تُخفف من حدتها… لكنها اختارت الوقوع في الحب !
أوروبا تُشبه سيدة أرستقراطية عجوز، ترتدي قبعة من ريش الطاووس الملون، وتظن أن أمريكا تُحبها… هي مَعمية بحب أمريكا. أوروبا، منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، لم تتبنَ سياسة خارجية مستقلة بها، إلا سياسة العداء لروسيا… روسيا بالنسبة لها كابوس سوفييتي، في حين كان يجب أن تكون الشريك التجاري مثلًا، لكنها قررت أن تكون العشيقة البائسة لواشنطن.
“أورسولا فون دير لاين”، الناطقة الرسمية باسم الإمبراطورية الأميركية في الاتحاد الأوروبي، امرأة بحد ذاتها مهزلة ! أنتم تعرفون، طبعا تعرفون أن المسؤولين الأميركيين يديرون أوروبا، لكنكم تفضلون التظاهر بأن بروكسل هي عاصمة القرار الأوروبي. وتعرفون، طبعا تعرفون أن واشنطن تديركم، ومع ذلك تضحكون وتُلوحون بعلم أوروبا.
لا أمن لأوكرانيا، ولا لأوروبا ولا حتى لأحلام أطفالكم، في هذه المغامرة الأمريكية الحمقاء التي انضممتم إليها وأصبحتم قادتها.
ها أنتم شركاء في مليون جثة هناك. نعم، ساهمتم بوعي كامل في سقوط مليون إنسان في أوكرانيا: حققتم الموت فقط ! هل تغيّر شيء؟ لا.
لنعد إلى موقف الولايات المتحدة الأمريكية. ترامب يهدد كالعادة، “أميركا ستدخل أوكرانيا للحسم” يقول… وبوتين، كالعادة أيضا، يضحك ويضيف: “دعه يصرح بما يشاء، فهو دائما يفعل عكس ما يقول”.
في فلسطين، الموقف واضح جدا، مايك هاكابي يقول إنه لا حل ممكن في فلسطين ! !
لقد تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن سياستها في الشرق الأوسط، وسلمتها إلى بنيامين نتنياهو… اللوبي الإسرائيلي هو من يهيمن على السياسة الأميركية. مهزلة!
عام 1996، في ذروة محادثات السلام، وبينما جلس الإسرائيليون مع الفلسطينيين في قاعات المفاوضات، يتصافحون في مدريد، ويتفاوضون في أوسلو، ويضعون الأعلام الفلسطينية إلى جانب أعلام الأمم المتحدة، وبينما كان ياسر عرفات يُعدل الميثاق على أمل الدولة، أعدّ نتنياهو ومستشاروه الأميركيون الصهاينة خطة لاستبدال حل الدولتين بـ”الحل بالقوة”، وتطويق سوريا، وضرب العراق، وخنق الفلسطينيين. وضرب أي حلف يتمّ تشكيله من أجل مناصرة فلسطين، بما فيه حزب الله وحماس. أطلقوا على هذا الحل تسمية “وثيقة القطيعة التامة” A Clean Break لأنهم قرروا القطيعة فعلا وفرض واقعهم.
وبناء على هذه الوثيقة، شنت الولايات المتحدة سبع حروب في خمس سنوات. وكان الجنرال “ويسلي كلارك” ينفذ التعليمات من مكتب السياسة الإسرائيلية. يمكنك الاستماع إلى الجنرال “ويسلي كلارك” عبر الإنترنت، وهو يتحدث عن هذا الموضوع. كان القائد الأعلى لحلف الناتو في عام 1999… هذه كانت حروب نتنياهو، بالمناسبة: تطهير بقايا الحلفاء السوفييت، وتقويض نظام كل دولة، كل حلف وتنظيم يناهض إسرائيل، وخلق الفوضى في المنطقة.
وعند إشعال كل حرب جديدة، كان نتنياهو يبتسم كمن يشعل سيجارة عند أول اكتئاب. خطط نتنياهو منذ 30 سنة أنه لن تكون هناك سوى دولة واحدة: إسرائيل. وستتوسع، وأي جهة ستعارض: “سنطيح بها، ليس نحن بالضبط، ولكن صديقتنا، الولايات المتحدة”… هذه هي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط حتى صباح اليوم.
هذه السياسة لم تبدأ مع ترامب، ولا مع بايدن، وليست من صنع كلينتون، ولا بوش، ولا أوباما. هذه هي اللعبة المملة للسياسة الأميركية: إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا، وإذا كنت ضدنا، فانتظر أن يسقط نظامك من الداخل. أليست هذه هي النسخة اليومية من السياسة الأميركية؟ منذ الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة لم تتوقف عن التدخل المباشر في شؤون الآخرين، مستخدمة خطاب مزيف عن الديمقراطية. ما بين 1945 و1989، احدثت سبعون عملية لتغيير الأنظمة. اتهمت السوفييت بمحاولة غزو العالم، ثم استخدمت الذريعة لغزو العالم بنفسها…
مصيرنا كله مكتوب وموثق لديهم لمئة عام قادمة… لكننا دائما نفاجئهم وننغّص عليهم مشاريعهم الشيطانية. ظنوا أن غزة ستنتهي في غضون شهر. جهزوا قبورا لنا، ونصبوا الخيم السعيدة في سيناء، ورسموا خرائط جديدة للمنطقة.
يا لبلاهتهم، ظنوا أن غزة نكتة، وأنها ستنتهي خلال شهر. لكن كل مجزرة في غزة أنجبت صاروخ جديد: من القسام إلى الياسين وبدر 3، من عياش 250 إلى R160 ومن صاروخ القدس إلى “عاصف الغضب”.
يا لعجزكم، هل غاب عنكم ان غزة تُخالف الفيزياء. كل ما يُلقى فوقها… يرتدّ !
لقد راهنوا على الاستيطان في الضفة وحققوا ذلك. ظنوا أن النصر في المعركة هو نهاية الصراع.
أي نصر هذا حين يكون ثبات جيشكم مرهون بعلبة دواء مضاد للاكتئاب؟… دولة تحتاج إلى الـ Prozac كي تنهض كل صباح.
هذه ليست نصيحة… هذا إنذار من عدو لا يحبكم، ولا يتمنى موتكم: فقط عودوا من حيث أتيتم.
كلما رسمتم حدود إسرائيل الكبرى، كلما اقتربتم من الجدار الأخير… كلما اقتربتم من إسرائيل الكبرى، كلما الفكرة فقدت معناها.
قد تكونوا انتصرتم في معارككم لكنكم تخسرون الزمن… والتاريخ لا يسامح الغطرسة.
كلما توسعتم، إنكمشتم وانكشفتم. انظروا إلى بن غفير، هذا المهرج يصرخ كالأبله: “أرسلوا القنابل، لا المساعدات إلى غزة”.
الحرب، صحيح، هي على الأرض، لكنها أيضا على التاريخ… والتاريخ، يا أعدائي، لا يُملى عليه بالصراخ. وسيضعكم إلى جانب بن غفير، في الهامش الدموي للعار.
قل لي كيف؟ قل لي، بربك، كيف لأمة أن تنتصر وهي تخسر التاريخ؟ في المستقبل، سيقرأ الجميع أن إسرائيل كانت دولة فاشية، أنها أبادت شعوب، وحرقت بلاد، وقلَبت أنظمة من أجل أن تستمر، ثم تفككت تحت وطأة ذاتها…
وغزة هي التي تكتب هذا التاريخ الآن… غزة تكتب هذا التاريخ بصواريخها، بدمها، وبعنادها الذي لا يُقصف ولا يُهزم… وأنتم ستقرؤونه بعد سنوات، وسيقف أولادكم بعد عشرين سنة، يقرؤونه في المدارس، ويخجلون منكم.
*كاتبة وأكاديمية و باحثة سورية – باريس
اليمن الحر الأخباري لسان حال حزب اليمن الحر ورابطه ابناء اليمن الحر