لبنى شطاب*
لطالما وقع الغزو الأمريكي للدول تحت مبررات بناء الديمقراطية و تقوية مؤسساتها وإعادة بناء جيوشها و محاربة الارهاب و التطرف حتى تصبح آمنة. لكن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان المنهكة في هذا التوقيت و تركها تواجه مصيرها بنفسها يطرح السؤال:
هل حققت أمريكا الديمقراطية في أفغانستان؟ و هل قضت على حركة طالبان؟
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس قالتها صراحة بعد سنوات من تدخل بلادها ” لم نذهب إلى أفغانستان لتحقيق الديمقراطية بل للإطاحة بحركة طالبان لأنها شكلت ملاذا آمنا لتنظيم القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001″.
لكن ما حدث بعد عشرين عاما من الحرب الخاسرة و المكلفة هو جلوس واشنطن للتفاوض مع طالبان بعدما كانت تعتبرها حركة إرهابية ، ثم انسحبت من أفغانستان قبل التوصل لاتفاق سياسي بين حكومة “أشرف غني” و الحركة ، ولقد كان بإمكان واشنطن استخدام ورقة الانسحاب للضغط على طالبان للتنازل لتقاسم السلطة و إحلال السلام لكنها لم تشأ استخدامها تاركة الحرب وراءها مشتعلة.
بلا شك حركة طالبان أول المرحبين المستفيدين من ذلك، وما إن بدأ الانسحاب حتى باشرت اجتياح الكثير من المديريات و المدن، و في غضون أيام سيطرت على اكثر من 85 من مساحة البلاد، في مواجهة جيش حكومي ضعيف التدريب و الامكانيات ولن يصمد أكثر من ستة أشهر، وهو مؤشرعلى قرب سقوط الحكومة الأفغانية على يد طالبان.
ما يلاحظ عن هذه العمليات أنها ركزت على معظم المعابر الاقتصادية الهامة والنقاط الحدودية المختلفة مع طاجكستان و إيران و تركمنستان و باكستان، وهي تتقدم نحو باقي المعابر، لكنها طمأنت في الوقت ذاته دول الجوار بأنها لن تستهدفهم و لن تشكل أي تهديد عليهم .
إذا نجحت الحركة باعتقادنا في اختبارات بناء الثقة مع دول المنطقة، وضمنت مصالحهم وأمنهم و قبلت بشركائها الأفغان في الحكم، لن تتردد هذه الدول في التعاون معها، فطالبان لا يمكنها المجازفة بحالة القبول الخارجي التي أصبحت تتمتع به، مستفيدة من تجاربها و أخطائها في الماضي، كما أنها تبحث عن غطاء دولي قوي ولن تجد غطاء أفضل من بعض الدول خصوصا المنافسة و المعادية للسياسات الأمريكية.
إن حسابات الولايات المتحدة الأمريكية مختلفة هذه المرة انسجاما مع أولوياتها، و باعتقادنا انسحابها محسوب بشكل جيد، ولم يأت اعتباطيا أو بسبب التكلفة المادية الضخمة فقط، بل تعتقد واشنطن أن كرة اللهب المشتعلة في أفغانستان حان وقت رميها في ملعب منافسيها و أعدائها في الإقليم فتحرقهم جميعا و تستنزف قوتهم، وتعرقل مشاريعهم، وفي مقدمتهم الصين و روسيا و إيران ، فهل ستصدق حسابات واشنطن؟
لقد دعت حركة طالبان “الصديق الصيني” كما وصفها المتحدث باسمها إلى الاستثمار في إعادة إعمارأفغانستان مع ضمان أمنها ، وهي رسائل تعني أمرين مهمين : الأول يعني بشكل غير مباشر أن الحركة قد رفعت يدها عن مقاتلي “الإيغور” و هي قضية مفصلية بالنسبة لأمن بكين، و الثانية تعني الرغبة في المشاركة في ما يعرف بمبادرة “الحزام والطريق ” و ذلك ببناء طريق يربط “كابول” الأفغانية بمدينة “بيشاور” الباكستانية تمديدا للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو أمر لطالما سعت إليه الصين عند حكومة “أشرف غني” التي ترددت خوفا من الأمريكان، ولكن الصين لن تتردد إذا ما حصلت على ضمانات أمنية و خطة واضحة.
تحافظ الصين على علاقات متوازنة بين الحكومة الأفغانية و حركة طالبان، و ستسعى بحذر لملأ الفراغ الأمريكي و لكن على طريقتها الناعمة و بأقل التكاليف مع تعظيم مكاسبها، فالصين تاجر شاطر لا يقبل الخسارة كسابقيه في أفغانستان.
أما روسيا التي انسحبت خاسرة من أفغانستان عام 1989 فهي قلقة مما يحدث، وأكدت أنها ستحمي حلفاءها إذا ما تعرضوا لأي خطر خصوصا حليفتها طاجكستان و يمكنها استخدام قاعدتها العسكرية هناك للرد على أي استفزاز من الأراضي الأفغانية، كما أن قائد الأركان المشتركة لمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي” “أناطولي سيدوروف” قال إنه في حال الضرورة سيستخدمون القوة.
إن أسوأ سيناريو يمكن أن يؤثر على روسيا هو زعزعة أمن حلفائها تحت ضربات الجماعات المتطرفة التي تدعمها طالبان، فتظطر مجبرة على دخول المستنقع الأفغاني مرة أخرى.
وتتعامل روسيا هذه المرة بشكل منفتح على طالبان وتناقشت معها مرارا حول المستقبل، بل هناك تقارير أمريكية سابقة تؤكد أنها دعمتها بالسلاح لإلحاق الهزيمة بغريمتها الولايات المتحدة.
تحاول روسيا اليوم احتواء الحركة و ضمان عدم انفلات أنشطتها بشكل يهدد مجالها الحيوي، و تعتبر أنه طالما بقيت الحرب محصورة داخل الحدود الأفغانية فإنه لا خطر على مصالحها، كما أنها تأخذ وعود طالبان بحفظ أمنها و أمن دول الجوار بعين الاعتبار، فهل ستفي الحركة بتعهداتها لموسكو؟
من جهتها تلقت إيران وعدا من حركة طالبان بعدم المساس بحدودها عندما استضافت ممثلين عن طالبان والحكومة الافغانية وغيرهما تزامنا مع “مفاوضات الدوحة”.
وتبحث طهران عن دور مؤثر لها في توازنات القوى الأفغانية عبر الانفتاح عليها جميعا، و يمكن مقارنة ذلك بسياسة الانفتاح التي انتهجتها مع مختلف القوى العراقية بعد الغزو الأمريكي، فرغ دعمها للقوى الشيعية إلا أنها لم تقطع صلتها بالقوى السنية العراقية التي تناصبها العداء واقعيا.
ورغم سعي طهران إلى احتواء حركة طالبان إلا أن هواجسها من الحركة لن تنتهي لأنها تدرك مدى تقاربها الفكري مع بعض الجماعات المتطرفة ، لذلك اعتمدت على حلفائها من القوى الجديدة الصاعدة على الحدود غرب أفغانستان كتنظيم “فاطميون” ، وتحاول إعطاءها دورا مستقبليا عبر استضافتها في حوارات طهران بين طالبان و ممثلي الحكومة الأفغانية، وهو أمر مهم وجب الإنتباه إليه في استراتيجية طهران في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي.
قد يشكل الانسحاب الأمركي إضافة استراتيجية مهمة لطهران في ميزان قوتها عبر توسيع تحلفاتها إلى آسيا بحيث تضاف أذرعها في أفغانستان إلى شبكتها الممتدة في الشرق الأوسط و التي تحمي مصالحها و تنفذ أجندتها، و لنا في العراق و غيره كل العبر.
كل دول الإقليم متخوفة من الانخراط في الصراع الأفغاني و قد أخذت العبر و الدروس من بريطانيا ثم روسيا ثم أمريكا، لذلك وقفت على الحياد من أطراف النزاع و فتحت قنوات اتصال مباشرة بهم .
أفغانستان بؤرة صراع غير مضمونة العواقب و المآلات، و كافة الاحتمالات بشأنها مفتوحة نتيجة تضارب المصالح الدولية و الاقليمية بها و لتعدد اللاعبين في ساحتها، لكن الأضمن للجميع هو حدوث اتفاق قريب بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، و يمكن لدول الإقليم التعاون لإنجاح هذا المسار ضمانا لمصالحهم و لمستقبل أفضل للمنطقة.
*إعلامية جزائرية و باحثة في العلوم السياسية.
نقلا عن راي اليوم