عبد العزيز البغدادي
هذا السؤال قد لا يروق لبعض الزملاء من القضاة لأنه يقوم على فرضية أن هناك مشكلة ما في مسار العدالة التي يفترض أن يتمثلها القضاء كمؤسسة والقضاة والمحامون وكل من له صلة بالتمثل والبحث والممارسة ويجعل البحث عن حلها أولوية في سلوك وذهن المشاركين في وضع السياسة القضائية وتنفيذها وهو مالا يقبله أو لا يهتم به قسم كبير من القضاة لثقافتهم أو تعبئتهم خلال فترة دراستهم في معهد القضاء وهي في الغالب تكرار للدراسة الشرعية والقانونية النظرية التي تلقاها الطالب في كليات الشريعة والقانون والحقوق يعينون بعدها قضاة بغض النظر عن ملكاتهم ومدى صلاحيتهم لقضاء الحكم أو الاتهام والتحقيق وخلال البقاء في المعهد يجري في الغالب تعبئتهم تعبئة خاطئة حول مفهوم هيبة القضاء وعلاقة القاضي بالمجتمع ! وهذا ما ينفخ فيه الذات مبكراً وينمي لديه حالة التجهم في التعامل مع الناس ومواجَهة من ينتقد مسلكه بقسوة بحجة أن ذلك يمس من هيبة القضاء !.
والأحكام المطلقة ليست من الإنصاف وليس من العدل كذلك نفي وجود أو إثبات الاهتمام بالعدالة لدى القاضي الفرد أو المؤسسة القضائية بصورة عامة ومطلقة فمن القضاة من يزيده اعتلاء منصة الحكم تواضعاً وخشية من الله!!.
ولكني أعتقد كذلك أن من غير اللائق ومما يجافي الإحساس بالمسؤولية تجاهل واقع الحال في ساحة العدالة أو ذر الرماد في العيون لمنع رؤية حجم المظالم المنتشرة في اليمن طولاً وعرضاً وسد الآذان كي لا تسمع أنين المظلومين وآهاتهم ومواجهة من يهدى للقاضي أو للمؤسسة القضائية عيوبهما من خلال النقد البناء لما يعانيه المجتمع من مظالم بالمحاكمة أو التهديد بها أو في أحسن الأحوال بالصد والقسوة والتجاهل بحجة الذود عن هيبة القضاء والقضاة والتطاول عليهم، وكأن الهيبة تأتي من خارج القاضي ولذاته وليس من داخله ونتيجة لمدى احترامه هو لهيبة القضاء وتوخيه العدالة!.
ومع أني من قبل ومن بعد ممن يرى بأن مكانة القضاء والقضاة لا بد أن تحترم فإن من الضروري الموازنة بين حق القاضي والقضاء في الاحترام وحق المجتمع في الرقابة على المسلك المهني وحرصهما على العمل الجاد والمخلص لتحقيق العدالة و إشعار المجتمع بهذا الحرص لأن هذا الإشعار هوجوهر العلة التي من أجلها نصت قوانين المرافعات المدنية والإجراءات الجنائية على أهمية أن تكون جلسات المحاكمات علنية ومتاحاً حضورها لمن يريد من الجمهور وهي علة توضح أن الرقيب على القاضي ليس فقط ضميره كما يحلو للبعض فهمه ولكن النصوص المتعلقة بالعلنية تهدف لإشعاره بحق المجتمع في الرقابة عليه إلى جانب كونه تحت رقابة من يعلم السر وما يخفى ، ولكن مُساءَلة ومعاقبة ما يظهر من سلوك مسألة دنيوية وحقٌ للمجتمع ورقابة السر أخروية وهي لله وحده وكلاهما له أثره !.
وإذا كانت الرقابة المجتمعية تأتي في إطار المسؤولية القانونية على ظاهر السلوك فإن رقابة الضمير ضمن المسؤولية الدينية التي ليست فقط على السلوك العلني بل على السر والعلن وهي لله عالم الغيب والشهادة وعقوبتها تكون معجلة أو مؤجلة حسب مشيئته أما العقوبة القانونية الدنيوية فمحكومة بضوابط ومعايير شكلية وإجرائية ينبغي عدم إهمالها في الدنيا لما لها من أهمية في تهذيب سلوك القاضي في أداء وظيفته المتصلة بحماية الدماء والأعراض والأموال والحقوق وكذا إصلاح شأن المؤسسة القضائية لتكون أداة فاعلة في تحقيق العدالة الدنيوية.
وهذا لا يعني الدعوة إلى الفوضى والتطاول على مكانة القاضي والقضاء لأن احترام هذه المكانة فيه مصلحة عامة فالمجتمع الذي لا يحترم فيه القضاء ولا يعطيه المكانة التي يستحقها مجتمع مهدد بالفساد والانهيار والضياع ، والمطلوب كمقدمة لإصلاح القضاء : إعمال هذه المعايير والضوابط ومراجعة أحوال مؤسسة القضاء بكل تفرعاتها ، والتقييم والتقويم المستمر لسلوك القضاة المبينة مبادئها في القرآن الكريم ومبادئ الدستور وقانون السلطة القضائية والمرافعات والإجراءات وكل القوانين والمبادئ ذات العلاقة فهذه مسألة ملحة وضرورية في طريق سيادة مبدأ استقلال القضاء وحرية واستقلال القاضي لأنه لا حرية لقضاء فاسد ولا لقاضٍ مرتشٍ أو ظالم ظهر انحيازه واستهتاره بهيبة القضاء وسمو العدالة ، و استشعار المسؤولية تجاه ما وصلت إليه حالة انعدام الثقة بين القضاء والمجتمع بدراسة أسباب الوصول إلى هذه الحالة ووضع خطة جادة وفعّالة لاستعادة الثقة ووضع الأسس الكفيلة بوجود آلية لتحقيق عدالة القضاء ثم استقلاله ومنحه الحقوق الضرورية والحفاظ على هيبته من المساس بها من أيٍّ كان وبذلك في اعتقادي نبدأ الطريق الصحيح لتشييد دولة العدالة المنشودة !.
العدالةُ أنشودة
تملأ الروح بهجة
والطريقُ إليها طويلٌ
لكننا نقهر المستحيلْ
خطانا تمر على شفرات الأماني
نسبقُ الضوء
لا شيء يحجبه عن رؤانا.