الثلاثاء , مارس 19 2024
الرئيسية / اراء / حرق القيم وتدمير الفطرة الإنسانية!

حرق القيم وتدمير الفطرة الإنسانية!

د. طارق ليساوي*
أشرت في مقال “على خلفية حرق المصحف الكريم بالسويد: نصرة القران ومقدسات الإسلام لن يتحقق بالتنديد أو التهديد ” أن الاعتداء على مقدسات الإسلام نابع من ضعفنا ، و إهمالنا لكتاب الله و سنة نبيه المصطفى في إدارة شؤون دنيانا و تعطيل أحكام الإسلام و شرائعه و علاجاته الربانية التي تشمل الاقتصاد و السياسة و العلاقات بين الأمم..
و بعد رحلة بحث قادتني لدراسة التجربة التنموية الصينية و الأسيوية ، و هو ما دفعني دفعا قبل ذلك، باتجاه دراسة النموذج التنموي الغربي بعناصره و مدارسه الثلاث :
التيار الأول القومية الاقتصادية ” المركنتيلية” التي نشأت عن ممارسة رجال الدولة في أوائل الفترة الحديثة، تفترض و تؤيد تفوق السياسة على الاقتصاد، و تؤكد على وجوب خضوع السوق لمصالح الدولة و تجادل بأن العوامل السياسية تحدد العلاقات الاقتصادية ..
التيار الثاني “الليبرالية” و التي جاءت كرد فعل على ” المركنتيلية” و باتت مجسدة في الاقتصاد التقليدي ، و تفترض النظرية الليبرالية وجود السياسة و الاقتصاد في مجالات منفصلة و تجادل بوجوب تحرر الأسواق من التدخل السياسي ، وذلك خدمة لمصلحة الفعالية و النمو و الخيار الاستهلاكي ..
التيار الثالث ” الماركسية” و التي برزت في منتصف القرن التاسع عشر كرد فعل على الليبرالية و الاقتصاد الكلاسيكي، فهي تتمسك بأن الاقتصاد هو الذي يحرك السياسة و أن النزاع السياسي ينجم عن الصراع بين الطبقات حول توزيع الثروات، و بالتالي سيتوقف النزاع السياسي مع زوال السوق و زوال المجتمع الطبقي …
و من خلال الدراسة خلصت لملاحظات جوهرية ، و إقتنعت على -المستوى الشخصي- أن هناك خلل بنيوي في النموذج الوضعي السائد و الشائع، و قد شرحت ذلك للقراء في أكثر من مقال و محاضرة، بل إن ثلاثية “النموذج التنموي المنشود” حاولت توضيح هذه النواقص و شرحها، و لم يتوقف الأمر عند هذا المستوى بل يحاول الكاتب، أن يدافع عن وجهة نظره عبر مجموعة أخرى من الكتب الأكثر نضجا ووضوحا، و ربما سأضرب للقارئ العربي موعدا مع “خماسية” بعنوان ” كورنا منحة في ثوب محنة” ، لكن للأسف في عالمنا العربي أصبحنا نعيش أزمة قراءة و عزوف شديد عن اقتناء الكتب ، و هو ما أضرر باقتصاديات التأليف و الطبع و النشر و التوزيع..
و الواقع أن ما يعطي للكاتب “ميزة نسبية” بعيدا عن الرياء أو النرجسية، هو مساره العلمي و المهني الذي أتاح له الجمع بين الإقتصاد و السياسة، و بين هذه النماذج التنموية المختلفة، و أيضا إطلاعه على الفكر الاقتصادي الإسلامي و تبحره في هذا الاتجاه، و من واجبي كمسلم أولا و أخيرا، أن أدافع عن الاختيارات التنموية المجربة منذ عهد سيدنا يوسف و سيدنا شعيب عليهما السلام ، و أستطيع الجزم بأننا في أمس الحاجة لاقتصاد سياسي إسلامي ، فاليوم الأمة قبل غيرها في حاجة إلى نموذج تنموي مستقل و نابع من قيمها الإسلامية ، بعيدا عن الشرق و الغرب ، و لا يمكن إحداث هذا النموذج دون العودة للأصول و المصادر الأساسية القران و السنة ..
فالتنديد بحرق القران و الاساءة للمقدسات الإسلامية لا ينبغي أن يقتصر على البيانات و ردود الفعل المتشنجة و الظرفية – الأنية، بل ينبغي أن يكون بداية ، بمساءلة النموذج التنموي الغربي المعتمد في كل البلدان العربية و الإسلامية ، و مدى قربه أو بعده من صريح الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية، بعيدا عن المتشابهات ” فالحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور متشابهات” ، فنحن الأن في أمس الحاجة إلى ترك الحرام البين ، الذي أصبح حلالا لدى كثير من المسلمين فغبار الربا ، بل فيروس الربا دخل لكل بيت و مس الجميع، بل الأدهى البعض يحلله و يدافع عنه و بنصوص شرعية ، و هؤلاء بعد علماء السوء الذين أبتليت بهم الأمة في عصور انحطاطها..
و بعض رجال الاقتصاد و السياسة يدافعون عنه على إعتباره أن الفائدة-الربا أحد أهم الأدوات المالية و النقدية التي تبنى عليها السياسات المالية و النقدية في عالم اليوم و في ذلك قصر فهم و عجز عن البحث في بدائل أخرى ، فأغلب صناع القرار الاقتصادي في عالمنا العربي و الاسلامي الموبوء بالتبعية للخواجة، يعتقدون إعتقادا جازما بأنه لا غنى عن الربا أو الفائدة في عملية التنمية ككل، بالرغم من أن علماء في الاقتصاد حاصلين على جائزة نوبل ربطوا بين الفائدة و أخطر الاختلالات التي يعيشها الاقتصاد الرأسمالي و أزماته المزمنة و الدورية ، و بهذا المنبر كتبت سلسلة من المقالات التي شرحت فيها بالتفصيل دور الزكاة الفعال و المثمر في القيام بفعالية، بأغلب الأدوار التي يلعبها سعر الفائدة في الاقتصاد الوضعي ، و دون أضرار اقتصادية او اجتماعية او نفسية ..و لكن للأسف لا حياة لمن تنادي ..
فسؤال النقد و المال من أهم الأسئلة المفروضة في عصرنا هذا ، و عندما نتحدث عن النموذج التنموي البديل فلا يختلف إثنان على أن الغرب بلغ منتهاه و أوصل البشرية ، إلى أكل الحشرات و طحنها في الطعام ، و محاربة ما أحله الله لعباده من أنعام و طيور و أسماك، فهذا النموذج الغربي المتطرف أوصل البشرية ككل إلى نفق مسدود ، و أهلك الحرث و النسل ، و أهلك الاقتصاد الحقيقي ، المتمثل في الحرث و الفلاحة و الإنتاج و البيئة، و أهلك النسل بإشاعة الشذوذ و المثلية و الزنا ، و تقييد و تكبيل كل جهد لبناء أسرة طبيعية بين الرجل و امرأة، فتحث شعار تحرير المرأة و حماية المرأة من تسلط و قهر الرجل تم إفساد النساء، ووضع تشريعات مجحفة في حق الرجل، و هو ما قاد بالنهاية إلى عزوف غالبية الشباب عن الزواج ، و أصبحت كثير من النساء العفيفات عرضة للعنوسة ، و تم تدمير أنوتثها و مستقبلها ، بحرمانها من أهم حلم أو طموح لكل أنثى –طبيعية- أن تصبح أم..فأصبحت المرأة خارج حماية الميثاق الغليظ “الزواج” عرضة للإستغلال المجاني من قبل بعض الرجال، فهو يستغلها جنسيا و اقتصاديا ، دون أن تكلفه شيء ..بينما في إطار الزواج فحقوقها مصونة كزوجة و أم و كمرأة أولا و أخيرا…فقوة المجتمع و تماسكه يبدأ بالاهتمام ببناء الأسرة الطبيعية التي تتكون من زوج و زوجة و ينجبون أطفالا، و ليس بتشجيع بناء أسر شاذة مفككة من الأساس،..
أما بناء القوة الاقتصادية الحقيقة فيتطلب الاهتمام بالأرض و بالموارد البشرية ، فهما مقياس الثروة و سند المال ..و البحث عن سبيل حقيقي و جاد للخروج من خرافة و “مصيدة الدولار” ، التي حولت المال إلى سلعة، و تحويله لأداة نصب على الأفراد و الأمم ، و هل يختلف عاقل على أن الفائدة –الربا هي أس المشكل و أن الانتقال من قاعدة النقدين ” الذهب و الفضة” إلى الاعتماد على عملات صعبة مطعون في صلابتها، و مشكوك في ثباتها و استقرارها؟ّ! ألم يحن الوقت للعودة للإقتصاد الحقيقي و النقد الثابت و غير المتغير ” الذهب ” ؟!
فبدل الاستمرار و التمدد في سياسات طبع المال ، لابد من الاتجاه نحو تشجيع الإنتاج و زيادة السلع الأساسية و هذا الأمر هو الكفيل بخلق دورة اقتصادية حميدة و مثمرة، و القران الكريم أفضل خارطة طريق يمكن اعتمادها لكشف زيف “النموذج التنموي الدولاري” السائد في عصرنا ، و الذي يقود الإنسانية إلى دمار شامل نرى أن ساعته تقترب ..
و للأسف عالمنا العربي و الإسلامي سيشهد تبخر ثروات قارونية، و تعميق لفقر المفقرين و إفقار للميسورين، فالدولار مربوط بالذهب الأسود و هذا الربط أنتج ما يسمى ب البترودولار” و الواقع أن كلا السلعتين أنتجت ما نراه من دمار ، فالدولار و البترول عنوان حضارة اليوم التي قوامها حرق القيم و تدمير الفطرة الإنسانية وإهلاك الحرث و النسل ، إنها حضارة الديناميت و الحديد و النار ..و حتى لا أطيل على القارئ الكريم، و لأني خجلت من طاقم تحرير رأي اليوم، بسبب عدم نجاحي في التزام سقف 800 كلمة ، سأتوقف عند هذا الحد و لنا لقاء في المقال الموالي ان شاء الله تعالى .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسة والسياسات العامة

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

الإبادة والتهجير وحرب “المطمطة”!

د. كمال ميرزا* بحسب الخبير العسكري اللواء المتقاعد مأمون أبو نوار فإنّ حرب الإبادة والتهجير …