السبت , يوليو 27 2024
الرئيسية / اراء / الصراع الأزلي بن النموذج الحضاري الطيني والنموذج الناري!

الصراع الأزلي بن النموذج الحضاري الطيني والنموذج الناري!

د. طارق ليساوي*
حاولت من خلال مقال “على خلفية حرق المصحف الشريف: هل ضاقت الأرض بأهلها؟ و لماذا أرى أن نظرية مالتوس “خرافة ” يكشف القران الكريم زيفها؟” استحضار بعض مضامين القرأن الكريم التي أصبحت غائبة عن أذهاننا كمسلمين ..فهناك قلة من البشر أصبحت تلهو بالبشر و جناته و أقواته و مستقبله ، و تحاول مكننته و استعباده و تجويعه و تدجينيه و حيونته و تشويه فطرته، لذلك ينبغي ان نضع ما يحاصرنا من أحداث و قرارات دولية الصبغة عابرة الحدود و الأمم، تحت مجهر البحث و التدقيق، فزمن التفاهة انتهى و القادم أسوأ ،و الإنسانية تمر بلحظة فارقة و حاسمة ..و ليس هناك وسيلة لفضح و كشف المخططات الشيطانية –الدجالية، و فهم السياسات المتبعة في الاعلام و السياسة و الاقتصاد و تصريف مجموعة من القرارات و تغدية دورة من الأزمات و اخرها نقص الغداء و الاحتباس الحراري و نذرة المياه ، و ارتفاع أجندة الشذوذ الجنسي و المثلية لتتصدر رأس الأولويات في أغلب المنتديات العالمية ..
و ليس هناك وسيلة لفضح كل هذه المخططات أفضل من العودة إلى أهمية و محورية ” الدين الصحيح” في حياة الإنسان ، لابد من العودة إلى أصل الحكاية و نقطة البدء و أعني قصَّة خلق أدم و مسلسل استحقاقه للإستخلاف، و بداية قصَّة الصِراع بين الإنسان والشيطان في الجنة، وهذا الصراع إنتقل على الأرض و سيستمر إلى يوم القيامة، صراع دقت ساعته منذ لحظة الإعلان عن خلق أول إنسان، واستمرت في ذريته من بعده..
فالإنسان وارث هذا الصراع و حامل جناته، ينبغي أن يدرك حقيقة لا يطالها الشك “أنه مخلوق”، و كل الأديان السماوية تتفق على أن الله هو الخالق، بل حتى العقل السليم و الفطرة السوية تصل إلى هذه الحقيقة، و لنا في قصة إبراهيم عليه السلام و حيرته بين القمر و الشمس و أيهما أكبر خير مثال على أن العقل السليم و الفطرة السوية تصل إلى حقيقة الخلق، و اليوم لا زال بعضنا يعيش هذه الحيرة الوجودية ، و إتسعت دائرة الإلحاد نتيجة لعدة أسباب، و سياق المقال ليسمح بتفصيلها.
لكن ما يهمنا في هذا المقال هو تفكيك طبيعة الصراع الدائر بين إرادتين، إرادة معمرة و أخرى مدمرة، و بداية القصة بدأت منذ لحظة إعلان المولى عز و جل عن إرادته بخلق خليفة و قال الله تعالى لملائكته: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة 30)..فالملائكة أصدرت حكما مسبقا على أدم وذريته و شككت في مدى استحقاقه للخلافة ، لكنها سرعان ما رضخت لأمر الله تعالى و علمه قائلة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة – 32) و من دلائل هذا الرضوخ السجود لأدم : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (البقرة 34)..
لكن علينا العودة لما رفض إبليس السجود لأدم و التساؤل عن سبب الرفض ؟
و سبب رفض السجود حسب قول إبليس: “أنه خلق من نار و أن أدم خلق من طين ” أي مجرد طين “، بمعنى أن النار أفضل من الطين، هكذا بدا الأمر لإبليس و هذا منتهى علمه، فقد إعتقد أن النموذج الحضاري الناري أكثر تفوقا من النموذج الحضاري الطيني..
و لقد أثبت أدم عليه السلام علو كعب النموذج الحضاري الطيني ” علما” أي على المستوى العلمي و المعرفي قال تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33))( البقرة 31-33)
و القران رسم لنا ملامح و خلفيات و تطورات الصراع بين الإنسان والشيطان..و لم تظهر بذور الإفساد وسفك الدماء الذي ذكرَته الملائكة عندما خاطبَهم الله بأنه جاعِل في الأرض خليفة، إلا عندما أمَر سبحانه الملائكة بالسجود لآدم؛ ففي هذا الوقت بدأت جذور وبذور الانحراف، و بدأت ملامح خطة إبليس للإفساد تتبلور ، قال تعالى: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)
لقد ذكرَت الآية أن مبدأ خلق الإنسان هو الطِين، وفي سورة الروم التراب؛ قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (الروم: ) ، وفي سورة الحِجر صلصال من حَمأ مسنون؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ) (الحجر-26) ، وفي سورة الرحمن صلصال كالفخار، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) ( الرحمن- 14).
والصراعات التي توالت بين الحق والباطل فيما بعد ما هي إلَا صدًى وانعكاس لهذا الصراع الأول بكلِّ أبعاده وملامحه، فقد بذر إبليس عليه اللعنة بذرة التكبُّر والاستعلاء والغرور واتِباع الهوى، التي هي أبعاد الصِراع بين الحق والباطل، وسنَّ آدم عليه السلام طريقَ الاستقامة والثَّبات على الحق و الثوبة والرجوع بعد السقوط.
واليوم الفقه الشيطاني لازال سائد و يتمدد و له أتباع و مؤمنين أقوياء، لكن هذا الفقه الشيطاني زائف و خاطئ.. قائم على الزيف و الوهم و الهوى ، والكِبر وحب الاستعلاء ولو بغير حق، و من خلال الادعاء الشيطاني يمكن إستخلاص ملاحظتين تساعدنا في التمييز بين النموذج الحضاري الطيني و النموذج الحضاري الناري:
الملاحظة الأولى: أن من كان مخلوقا من عنصر أو عناصر أشرف، كان هو أشرف دومًا، ولو ظهرت منه بعد خلقه قبائح و منكرات ، و حجة إبليس لازالت سائدة و هي أساس الاستعلاء والاستكبار بالأعراق والأصول ..و هي حجة واهية بالتأكيد ، فالإسلام و هو الدين الخاتم جعل الناس سواسية ، قال تعالى : (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات – 13)
الملاحظة الثانية: أنَّ النار أشرف من الطِين؛ وهذا إدعاء واهم و باطل؛ فالنار ذات نَفع بحرارتها، لإنضاجها الأشياء، واستخدامها في منافع كثيرة، وذات ضرر عظيم وخطر جسيم حينما تَحرق وتُتلِف وتهلِك، والطين ذو نفع عظيم حينما يكون عنصرًا لإنبات الزروع والثمار وسائر نباتات الأرض… فتفضيل عنصر النار على عنصر الطين تفضيل وهمي باطل دافعه النزعة الاستكبارية و محركه الحقد و الغيرة..
و اليوم لازلنا نعيش في قلب هذا الصراع الدائر بين “الطين” و” النار “، أي النموذج القائم على تكريم الأرض و حسن استغلال ثرواتها و عدم الابتعاد عنها أو الإنشغال عن زراعتها و إعمارها بمالا يضرها..و قد أشرت في مقال ” حضارة الديناميت ” إلى أنها حضارة النار و الحرق التي أهلكت الحرث و النسل ، أي الأرض و البشر ، و هي امتداد للنموذج الناري الذي دافع عنه إبليس و يبغي العمل على الخروج من دورته المدمرة و الفهم الصحيح للإسلام كفيل بإيقاف طوفان الحرق و التدمير و التزييف و التضليل .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
*إعلامي وأكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسة والسياسات العامة

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

يوم عرف العالم حقيقة الكيان!

  د. أماني سعد ياسين* ما شعرت بالأمل يوماً كهذا اليوم! نعم، ما شعرتُ بالأمل …