الجمعة , مارس 29 2024
الرئيسية / اراء / الذات والقيمة الحضارية والثقافية!

الذات والقيمة الحضارية والثقافية!

عبد الرحمن مراد*
يبدو أن تدفق الأموال يرتبط بالنوايا المبيَّتة نحو اليمن، وهي حالة تاريخية مازالت تتوالى منذ ذلك الأمد البعيد الضارب بملامحه في عمق التاريخ وحتى اليوم، فالأموال التي تتدفق إلى اليمن لا تكون مقرونة أو مصحوبة برغبة الاستقرار، بل برغبة زعزعة الأحوال واضطراب السهول والجبال، فالقضية مع مال المترفين قضية شائكة لم تكن بذات الأبعاد التي وصلت إليها في الزمن المعاصر، إذ أنها اتسعت اتساعاً مفرطاً مع اتساع دائرة الفقر في البعدين الرأسي والأفقي.
لم تعد اليمن ذات قيمة وجدانية وثقافية في تصورات الناس ولا تشكل عنصراً فاعلاً وقوياً في بيئة الانتماء والهوية الوطنية والحضارية والتاريخية، فقد رأينا خلال الأحداث التي عصفت بنا منذ 2011م وحتى هذه اللحظة التي نعيش فيها كيف تعامل أبناء اليمن مع اليمن، فهو لم يتجاوز القيمة العددية.. ثمن بخس دراهم معدودات، ومثل ذلك أمر دال على حالة نكوص وجدانية وحالة شلل وتعطيل في البنية الوطنية وفي نسيج الهوية والانتماء، وهو نتاج عقود من الاستهداف والتدمير بأموال المترفين التي كانت وماتزال تتحرك في الجغرافيا اليمنية منطلقة من بعد ثقافي والتزام أخلاقي تجاه مقولة أو أثر أو وصية قيل إنها انطلقت من لسان أحدهم في لحظة تاريخية فارقة تحسباً أو توقعاً أو استسلاماً لحسابات فلكية، بيد أن مثل ذلك لن يطول به الأمد، فسنن الكون تقول إن المترف الذي تأخذه الأماني إلى أبعد مدى تكون عاقبته هي العظة التي تعظ الغافلين حتى يعودوا إلى رشدهم، وهي الآية التي تعيد التوازن إلى حركة المجتمع وحركة الحياة، فالله وصف نفسه بالعدل، ومن العدل أن يُعيد التوازن إلى حركة الحياة ولو مدَّ أهل الترف زمناً في طغيانهم يعمهون، فالقضية هنا قضية جوهرية وهي ثابتة في صميم التجربة البشرية من حيث التمادي في الطغيان ومن حيث معالجة الانحراف بالعودة إلى التوازن الذي يريده الله تحقيقاً لخاصية العدل والمساواة، والعبرة لمن يتعظ، ولا أرى إلاّ أن مقادير الله كائنة في الزمن الذي نعيش حتى تتساوى موازينه، وثمة رموز وإشارات يتحدث عنها الواقع تومئ إلى قادم جديد، والى حالة أجد لا يكون الغرور حاضراً فيها بقدر الحضور الأمثل لإرادة الله في العدل وفي المساواة وفي الحياة الآمنة والمستقرة.
لقد آن لتلك الذات المغتربة عن بعدها الحضاري والثقافي أن تستعيد وعيها بذاتها ولا أرى ما يحدث اليوم إلاّ تباشيراً دالة على يقظة تاريخية ويقظة حضارية، ولا أرى أولئك الذين ينالون من اليمن في القنوات الفضائية مقابل دراهم معدودات إلاّ امتداداً لما يماثله في التاريخ بدءاً من أبي رغال ولن يكون انتهاءً بهم، فالزمن ما يزال يحمل لنا الكثير من العجائب والغرائب، كما أن حالة التضليل والفراغ والنكوص التي بدت عند رموز سياسية بعينها كان لها ما يماثلها أيضاً.. فالذين ناشدوا المجتمع الإقليمي والدولي بالتدخل العسكري في اليمن وهم ينتمون إلى مشاريع قومية أو تحررية أو مشاريع تطلعية لم يكونوا إلاّ تعبيراً عن حالة «فراغ» لا يجد امتلاءً إلاّ بتكامله مع الآخر المغاير، وهو في السياق ذاته لا يجد نفسه متكيفاً مع شروط واقعه ولا مع الأبعاد الحضارية والثقافية أو التاريخية ذات المساق الوطني.
لقد كشفت الأحداث الغطاء عن كثير من رموز المزايدات في الوطن وقالت الأحداث إن الذين يتحدثون عن مصالح الوطن لم يتجاوز المفهوم في نظرهم مصالحهم الذاتية المستغرقة في ذاتيتها، وحين سالت دماء الأبرياء على تراب هذا الوطن لم تنبت إلا الأشجار التي تثمر في مخازنهم وبيوتهم وفي منازلهم الفارهة على شواطئ الثلج، ولم يجد اليمن من كل شعاراتهم إلاّ لحظة الألم أو الموت أو الفاجعة.
فاليساري الذي يقول بالعدالة الاجتماعية أصبح جزءاً من حركة الانكسار في المجتمع، واليميني الذي يقول بالمصلحة المرسلة، وبالقضاء على الفقر، حصر المصلحة في ذاته وقضى على الفقر في جماعته دون سائر الناس، والقومي الذي يقول بالتحرر أصبح يدعو القوى الاستعمارية للعودة والتدخل وبسط الهيمنة، وكل ذلك يجري تحت ثنائية قديمة جديدة وهي (الفقر / اليمنية)، فالصراع بين اليمنية وذلّ الفقر صراع قديم ولن يقف عند حد طالما واستمرت حركة الحياة.
فاليمن يحضر بقوة في الذات ومهما تطاول المتطاول، فالمتطاول في نكوص واليمن في علو مستمر، وقد رأينا زهو أعراب صحراء الخليج وهو ينتفخون فخراً في السنين الخوالي عند معالم مارب وعند سدها التاريخي، كيف تلاشى ذلك الشعور حتى أصبح رذاذاً لا تكاد تراه العين، ورأينا حركة الأفواه على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى القنوات الفضائية وهي تلوك الحروف وتمضغها حتى كادت أوداجهم تنفجر ولكن العاقبة للمتقين، فلا تكاد ترى لهم اليوم من أثر ولا تكاد تسمع لهم ركزا.
اليمن ذات عمق تاريخي، وهي تنتصر لنفسها حتى وإن بدا الواقع كما بدا عليه في بداية العدوان عام 2015م، إلا أن المقومات الحضارية والثقافية تشكل نسقاً دفاعياً ما يبرح يتشكل حتى يصبح الحال كما هو عليه اليوم من حيث القوة والمنعة، ومن حيث تبدل المعادلة العسكرية لتصبح اليمن كما عهدها تاريخها.
ولعل من أغرب ما تركته الأحداث، هو خروج ثلة من الأدعياء ينفون حضارة اليمن ويدّعونها في حالة هي التعبير الأمثل عن الهزيمة النفسية والحضارية والثقافية فضلاً عن الهزيمة العسكرية في شتى الجبهات التي يتكبدها العدوان، رغم التفوق في العدة والعتاد وفي المال ورغم الحصار والفقر الذي نحن عليه في اليمن، إلا أن فقرنا يشدّ من عضده الثراء الحضاري والثقافي والتاريخي، وثراء السعودية يفت في عضد فقرهم الثقافي والتاريخي والحضاري، ولذلك لاذوا بالتاريخ نفياً وانتقاصاً تعويضاً عن نكوص نفسي يجدونه في واقعهم.
نقلا عن صحيفة الثورة

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

ماذا جنينا من السلام مع إسرائيل؟!

المهندس. سليم البطاينة! ذات يوم سُئل الشاعر الفلسطيني (محمود درويش) عن اتفاقيات السلام العربية الاسرائيلية …