د. طالب أبو شرار
يكثر الحديث هذه الأيام حول مخطط صهيوني لغمر أنفاق قطاع غزة بمياه البحر الأبيض المتوسط وتثور تساؤلات تتراوح بين المتفائلة والمحبطة. أين هي الحقيقة إذن بين أن تتحول الأنفاق، دون وعي، الى مصائد موت أو أن تعمل كما خططت لها المقاومة الفلسطينية الباسلة: شرايين الصمود والحياة لحركة الجهاد الفلسطيني المقاومة للاحتلال الصهيوني الغاشم؟ للإجابة على هذا التساؤل هنالك عدة معطيات لا بد من توفرها لكي تكون الإجابة علمية وموثوقة. للأسف، لا تتوفر لدينا كل تلك المعطيات. لكنها وبخبرتي العلمية تتوفر في بعض جوانبها، وأقول الجوانب وليس الكل، لدى العدو الصهيوني معرفة معمقة فيما يتعلق بالمياه الجوفية كما ونوعا وعمقا وشحنا سنويا ولديه أيضا ذات المعرفة المعمقة بجيولوجية جنوب فلسطين وشبه جزيرة سيناء وكيفية تفاعل تربة وصخور المنطقة مع مياه البحر الملحية الغنية بعنصري الصوديوم والكلورايد. أما الشق الغامض في تلك المعطيات فلا يعلمه أحد سوى المقاومة الفلسطينية الباسلة لأنها هي التي صممت ونفذت ووعت ما يجب أن يكون عليه التصميم في حالات الطوارئ خاصة عمق وعرض الأنفاق وهي أيضا عرفت وتأكدت بالتجربة التطبيقية المصاحبة لعملية شق الأنفاق كل ما يخص جيولوجية طبقات الأرض في مناطق الحفر ووفرة أو عدم وجود مياه جوفية قد تتسرب لاحقا لتلك الأنفاق فتهدد سامتها. من جانب آخر، فإن المعطيات العلمية المتعلقة بالجيولوجيا وكيميائية مياه البحر وكيفية تفاعلها مع تربة وصخور المنطقة هي حقائق علمية يعرفها المختصون في كافة أنحاء العالم وليست حكرا على العلماء الإسرائيليين الذين يعرفون تحديدا جيولوجية المنطقة عبر دراساتهم العديدة خاصة خلال فترة احتلالهم شبه جزيرة سيناء وطموحاتهم لكشف مواقع الطبقات التي يمكن أن يختزن الغاز والنفط والمياه الجوفية اللازمة لمشاريع الاستيطان. لكنهم، بالمقابل، لا يعرفون حتما عمق الأنفاق تلك وهي معلومة لا بد من الوصول اليها كي يمكن للإسرائيليين توقع ما سيحدث لو غمرت تلك الطبقات بمياه البحر.
إذا عدنا للجوانب الحرجة المحصور معرفتها بجانب المقاومة فإنني أكاد أن أجزم بأن تساؤلات لا بد وأن تكون قد راودت ذهن الفنيين الفلسطينيين الذين صمموا ونفذوا خطة الأنفاق تلك. مثال ذلك: ماذا لو تمكن الجيش الإسرائيلي من الوصول الى أحد مخارج الأنفاق؟ هل سيكون ذلك معبرا لبقية الشبكة؟ الجواب المنطقي هو حتما كلا وقد شهدنا مثل تلك الحالة التي انتهت بتفجير فتحات الأنفاق وضياع المعالم الأرضية من خلفها أو أسفل منها كما استخدمت المقاومة تلك الفتحات في حالات عدة كمصائد موت عن عمد وترصد للغزاة الذين أوقعت في صفوفهم العديد من القتلى والجرحى. وبافتراض الحالات التي قد يتمكن فيها الجيش الإسرائيلي من الوصول الى احدى الفتحات والولوج منها الى الأنفاق ومن ثم السير أو الزحف فيها مسافة محددة فإن ذاك الزحف لا بد وأن يصطدم في النهاية بمسار مغلق لا يمكن للعدو أن يتنبأ بالكيفية التي يستمر بها بعد تلك النقطة ليتصل ببقية الشبكة. ربما عند تلك المرحلة ستجعل المقاومة عودة الجنود الإسرائيليين الى المخرج مستحيلة وستؤول نهاية مسيرتهم الى نهاية حتمية للحياة. ربما أيضا كان ذلك التصور هو المبرر الذي حال وسيحول لاحقا دون محاولة الجيش الإسرائيلي تتبع مسار أو مسارات بعض الفتحات التي قد تمكنوا من الوصول اليها فاكتفوا بتفجيرها أو فجرت بهم. الاحتمال الآخر، الذي لا بد وأن عالجه الفنيون الفلسطينيون بحكم معرفتهم اللصيقة بالعقلية الإسرائيلية الوحشية والفاشيستية، هو أن يحاول الجيش الإسرائيلي ضخ الغازات السامة عند مداخل الفتحات التي يتم العثور عليها. أكاد أن أجزم مرة ثانية بأن هذا الاحتمال لم يغب عن أذهان رجال المقاومة وأنهم لا بد وأن تدارسوه ووضعوا الحلول العملية له والتي من الممكن أن تكون حصر التلوث الغازي في منطقة محددة عن طريق إغلاق الوصلة أو الوصلات مع بقية الشبكة إما بواسطة التفجير المدروس أو بواسطة بوابات حديدية ثقيلة تخدم أيضا الحالات الطارئة مثل قيام القوات الإسرائيلية بتنفيذ تفجيرات عن بعد أو إغراق مداخل الإنفاق بمياه الصرف الصحي كما طرح سابقا أو بمياه البحر كما هو الرهان الراهن.
نعود ثانية الى الشق الغامض الخاص بالجانب الفلسطيني وأعني به جيولوجية الطبقات التي تم فيها حفر الأنفاق. هنا لا بد وأن تكون المقاومة قد عمدت الى شق الأنفاق الرئيسية في طبقات من الصخور الرسوبية الصلبة والمتماسكة كالحجر الجيري الصلد أو الطبقات الطينية الثقيلة المتماسكة جدا كي يمكن للمقاومة شق الأنفاق فيها دون حدوث انهيارات ودونما حاجة الى تدعيم اسمنتي أو ميكانيكي مكلف وربما غير متوفر في حالة الحصار المطبق على القطاع منذ سنين عديدة. كما يفترض أن تكون تلك الطبقات صماء الى حد كبير أي ألا تكون منفذة للمياه التي يمكن أن تتسرب اليها من الأعلى. وبناء على ما سبق، يمكننا تصنيف شبكة الأنفاق تلك الى مجموعتين رئيسيتين: أولاها شبكة الأنفاق الرئيسية والتي تعتبر ملاذا لرجال المقاومة أو لأي من نشاطاتهم العسكرية كمخازن السلاح وورش التصنيع الحربي. هنا لا بد من الإشارة الى أن أنفاق تلك النشاطات لا بد وأن تقع في الطبقات الجيولوجية الصلبة لأن عمقها وميزتها التركيبية تسمح بتجنب الانهيارات الأرضية وبتوفير الحد الأقصى من المرونة البنائية والمساحية والأمان خاصة في حالة القصف بقنابل ذات قدرات اختراقية وتفجيرية هائلة، وقد حدث ذلك بالفعل. ولكي يمكن الوصول الى تلك الأنفاق لا بد وأن تكون هنالك شبكة أخرى من الأنفاق الخدمية وربما أنفاق أخرى تستخدم لغايات حربية بحتة. ونظرا لجيولوجية قطاع غزة فإنه من غير المستبعد أن تشق الأنفاق الخدمية في طبقات هشة غير متماسكة كطبقات الحجر الرملي أو الطبقات المكونة من تربة خفيفة أو متوسطة القوام. لا بد وأن تكون أنفاق تلك الطبقات أنفاقا ضيقة عرضا وارتفاعا وقد تكون مدعمة بعوارض اسمنتية، كما شاهدنا في بعض التحقيقات المصورة. سيؤدي ضخ مياه البحر في تلك الأنفاق السطحية في الغالب الى تميع الطبقات الأرضية التي تحتضن تلك الأنفاق ومن ثم انهيارها تماما كما يحدث في حالات انزلاق تربة المنحدرات عند تشبعها بمياه الأمطار (Land Slide). إن حدثت مثل تلك الحالة فإن انهيار الأنفاق السطحية سيؤدي حتما الى انسدادها وبالتالي الى إغلاق المنافذ أمام مياه البحر والحؤول دون انسيابها الى الأنفاق الأكثر عمقا. وبالإضافة الى ذلك، فان تلك الانهيارات ستؤدي الى هبوط في التربة، ومن ثم، الى انهيارات إضافية في كل البنى التحتية كالمباني والشوارع والأراضي الزراعية. وبافتراض الحالات التي قد لا تحدث فيها مثل تلك الانهيارات، فإنني أعتقد أن المقاومة لا بد وأن تكون قد احتاطت مسبقا فنصبت أبوابا منيعة في نقاط محددة تمنع انسياب الأجسام الغريبة، كالملوثات السائلة أو الغازية، الى الأنفاق العميقة كما أسلفت في حالة ضخ الغازات السامة. قد يتساءل البعض عن الكيفية التي ستتدبر فيها المقاومة أمورها في مثل تلك الحالات؟ الإجابة البسيطة هي أنه لا بد وأن تكون هنالك منافذ عديدة الى الأنفاق العميقة يقع بعضها حتما في مناطق بعيدة عن شاطئ البحر بما يسمح بالدخول اليها أو الخروج منها بعيدا عن مراقبة الجيش الإسرائيلي.
الملاحظة الأخيرة في هذا الصدد تتعلق بالبعد البيئي المترتب على ضخ مياه البحر في أنفاق غزة. من الطبيعي أن مثل هذا السلوك الإجرامي هو تخريب متعمد للبيئة الإنسانية إذ أن بيئة قطاع غزة هي جزء أصيل من طبيعة هذا الكوكب بل هي مكون رئيسي من مكونات التراث الإنساني الضارب جذورها عميقا في التاريخ قبل ذكر اليهود وبني إسرائيل في أي من الموروثات الدينية. من يعمد الى تدمير بيئة غزة هو مجرم ومريض نفسيا ولا بد من معاقبته بموجب القوانين الدولية ذات العلاقة كما يتوجب نبذه من كافة المحافل الإنسانية خاصة تلك المتعلقة بالبيئة (التي للأسف حضر الرئيس الإسرائيلي بعضا من فعاليتها في هذا الشهر في مؤتمر الأطراف 28 (COP28. على أية حال، إن حقن طبقات الأرض العميقة بمياه البحر سيؤدي الى خلق طبقة من المياه الملحية تمتد بعيدا عن منطقة الشاطئ. مثل تلك الطبقة موجودة على كل السواحل البحرية في العالم وقد تمتد مسافات بعيدة عن شاطئ البحر اعتمادا على مدى نفاذية الطبقات الأرضية. بالمناسبة، هذه الظاهرة موجودة على مدى امتداد الساحل الفلسطيني من رأس الناقورة الى رفح. في مثل تلك الحالات الشاطئية تتموضع طبقة المياه العذبة فوق مياه البحر الأكثر ملوحة والأعلى كثافة بالطبع. من المهم هنا أن أشير الى أن مصدر المياه العذبة هو الرشح في الطبقات الأرضية من الأعلى الى الأسفل إما مباشرة من مياه الأمطار الهاطلة فوق تلك المناطق أو بالانسياب الجانبي من مياه الجريان السطحي المنحدرة من المرتفعات باتجاه البحر. في المناطق ذات الأمطار الغزيرة أو التي لا يحدث فيها ضخ مفرط للمياه العذبة، ستدفع المياه العذبة مياه البحر الى الأسفل والى مستويات دون مستوى سطح البحر. لكن في المناطق الساحلية التي تشح فيها الأمطار أو تستنزف مياهها العذبة عبر الضخ المفرط كما في حالة قطاع غزة المحروم من مصادر المياه العذبة التي كانت ميسرة له تاريخيا قبل الغزو الصهيوني لفلسطين فإن خطر صعود مياه البحر واقترابها من سطح الأرض هو خطر قائم ويعاني منه سكان القطاع من خلال ارتفاع ملوحة مياه الآبار وتلوثها بيولوجيا وكيميائيا. وعليه، فإن ضخ مياه البحر في الأنفاق سيؤدي حتما الى مزيد من تخريب لنوعية المياه الجوفية والى تقليص الحجم الأرضي الذي يمكنه استيعاب مياه الأمطار العذبة في السنين الماطرة. إن حدث ذلك، سيستمر هذا لحال الى أن يتم ضخ المياه الملحية غير الصالحة للشرب أو الزراعة وهي فترة ستكون طويلة بكل المقاييس. أقول فترة طويلة لأن الإجرام الصهيوني يحجب مياه الجريان السطحي العذبة القادمة من هضبة النقب عبر وادي غزة بواسطة سلسلة من السدود الصغيرة التي تستخدم مياهها إما مباشرة في أعمال الري أو بطريقة غير مباشرة لرفع منسوب المياه الأرضية في جوار القطاع. هذه المياه تضخ باستمرار لكافة الأغراض الزراعية أو الحضرية في المستوطنات القريبة من القطاع. وبما أن منسوب سطح الأرض في قطاع غزة قريب من منسوب سطح البحر بل هناك مناطق ذات طوبوغرافية يقع منسوبها دون منسوب سطح البحر فإن استمرار تدفق مياه البحر الى داخل قطاع غزة سيؤدي الى اقتراب مياه البحر الجوفية من سطح الأرض أي سيصبح من المتعذر العثور على مياه عذبة ذات حجم معقول. وبتموضع المياه الجوفية العذبة قريبا من سطح الأرض فإنها ستصبح أكثر عرضة للتلوث الميكروبي والكيميائي خاصة متبقيات الأسمدة الكيميائية كالنيترات والفسفور وبالميكروبات المرضية وبمبيدات الآفات الزراعية. بناء على ذلك، سيدفع أهلنا الأبرياء في قطاع غزة ثمن الإجرام الصهيوني مضاعفا: الأول من دمائهم الطاهرة والثاني من صحتهم وصحة أبنائهم.
في الختام، كان الله في عون أهلنا في غزة.
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …