عبد السلام بنعيسي*
أعلن وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورن، أن بلاده لا تدعم الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، والتي تتهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وقال وزير خارجية فرنسا أمام البرلمان ((اتهام الدولة العبرية بارتكاب إبادة جماعية يتجاوز عتبة أخلاقية))، مضيفا أنه ((لا يمكن استغلال مفهوم الإبادة الجماعية لغايات سياسية))، وقالت الخارجية الأمريكية، إن الدعوى (( لا أساس لها))، كما رفضت الحكومة الألمانية اتهامات جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، ووصفتها بأنها ((استغلال سياسي)) لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع الإبادة الجماعية ووصفت الدعوى بأنها (( بلا أساس في الواقع)).
يصعب على المرء أن يفهم ما المقصود بتجاوز ما أسماها وزير خارجية فرنسا ((العتبة الأخلاقية)) في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني. فنحن أمام مبادرة قانونية أقدمت عليها دولةٌ ذات سيادة، وارتكزت في رفعها لهذه الدعوى على القوانين الدولية المرعية. لم تعلن بريتوريا الحرب على تل أبيب، ولم تهددها بالقصف بالطائرات، وبالصواريخ، ولم ترسو، في الشواطئ المحيطة بالدولة العبرية، بالبوارج، والأساطيل الحربية، متوعدة بالدخول في حربٍ معها، لإجبارها على تغيير موقفها، والكف عن ممارسة ما تراه جنوب إفريقيا إبادة جماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة.
ينحصر كل ما فعلته الدولة الإفريقية في كونها، رفعت، بشكلٍ حضاري، دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. فهل اللجوء إلى القضاء، طلبا لرفع الظلم، ووقف القتل، والتدمير، والتهجير، صار يعتبر، في العرف الفرنسي، فعلا لا أخلاقيا؟ تَرْكُ الحبل على الغارب للقوات الإسرائيلية المدججة بأفتك الأسلحة، لكي تستمر في اقتراف جرائمها المروعة، على مدار شهور متتالية، ضد شعب شبه أعزل، الجرائم التي ذهب ضحية لها، لحد الساعة، حوالي 100 ألف فلسطيني، بين شهيد وجريح، ناهيك عن التدمير الذي طال معظم عمران قطاع غزة، هل يجوز اعتبارُ هذا الموقف السلبي، والمتفرج في المذابح والمجازر الإسرائيلية، أو المؤيد لها، فعلا أخلاقيا؟؟؟ ما هي المعايير التي يقع الاستناد عليها، من طرف وزير خارجية فرنسا، لتحديد أخلاقية القيم، من عدم أخلاقياتها؟ واضح أن المعايير باتت، بالميزان الفرنسي، مقلوبة، وصارت تمشي على رأسها، بدل قدميها..
عندما يتحدث وزراء خارجية، فرنسا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية عما يسمونه ((استغلال مفهوم الإبادة الجماعية لغايات سياسية))، فإنهم يقللون، في الواقع، من شأن المحكمة الدولية، إنهم يشككون في كفاءة ونزاهة قضاتها. جنوب إفريقيا قدمت ملفا مدعوما بالأدلة، والحجج، والبراهين المادية الملموسة التي تفيد، بالنسبة لها، وقوع إبادة جماعية في قطاع غزة. محامو الطرف الإسرائيلي ترافعوا مدافعين عما فعلته دولتهم في غزة..
ونتصور، أو هكذا يفترض، أن قضاة محكمة العدل الدولية، سينظرون في ملف الدعوى، بتجرد وموضوعية، وسيدرسونه بتفصيل ودقة، وسيقرؤون مرافعات الدفاع وسيمحِّصونها جيدا، وسيصدرون حكمهم النهائي في شأن الدعوى التي بين أيديهم، تأسيسا على حيثيات قانونية واضحة ولا لبس فيها، إنهم لا يمارسون السياسة، خلال النظر في القضايا المعروضة عليهم، إنهم يطبقون القوانين التي تستدعيها القضايا المطروحة بين أيديهم، بما تمليه عليه ضمائرهم المهنية القانونية..
فكيف علم وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وأمريكا بأن الأحكام ستكون مسيسة، وهي لا تزال في مرحلة المداولة؟ أليست هذه أحكامٌ جاهزة ومسبقة من طرفهم على محاكمة لا تزال أطوارها تدور في الغرف المغلقة؟ ألا تشكل هذه التصريحات الصادرة عن الوزراء، نوعا من الوعيد، والتهديد، والضغط الممارس، على القضاة، بغية إصدار الأحكام، طبقا لأهوائهم، ورغباتهم السياسية. أليس هذا هو الاستغلال للموقع السياسي، من أجل التأثير في سير المحاكمة؟؟ وألا يمكن إدراج هذه التصريحات في سياق إعداد الرأي العام الدولي، لعدم قبول الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية، إن كان يدين إسرائيل، وذلك تحت تبرير أن الدعوى مسيسة، والحكم الصادر جراءها باطل؟؟؟
تعودنا من أصحاب القرار في الغرب على التأكيد على ضرورة الفصل بين السلطات، وأن القضاء سلطة مستقلة، وأنها فوق كل السلطات، وينبغي عدم التدخل في شؤونها، ولا يجوز ممارسة الضغط عليها، أو التشكيك في أحكامها، ويتعين الانصياع لكل الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية، سواء من الحكومات أو البرلمانات، أو كافة مؤسسات الدولة، العامة والخاصة، وأن مخاصمة الأحكام ينبغي أن تكون في قاعات المحاكم أمام القضاء، وليس خارجها..
لكننا نعاين الآن، أن وزراء خارجية ثلاث دول عظمى، يشككون مسبقا في نزاهة الأحكام التي ستصدر عن محكمة العدل الدولية في القضية المرفوعة إليها من طرف جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، فكيف يحدث هذا؟ هل أمست السلطة القضائية في الغرب، بين عشية وضحاها، مشكوك في صدقيتها؟ هل انقلب السحر على الساحر، وصار القضاء مُتهما، لأن الذي يُساءَلُ في المحكمة، من جانب القضاء، هي الدولة العبرية؟
لا ندري استنادا إلى ماذا يعتبر وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وأمريكا أن دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل (( لا أساس لها))، لماذا يُنصبون أنفسهم قضاةً، ويصدرون أحكامهم القطعية والنهائية؟ لدحض هذه الأحكام الوزارية المزاجية، يكفي النظر، بالعين المجردة، إلى حجم الدمار الهائل الذي حل بقطاع غزة، فثلاثة أرباع القطاع دُمّر وسُوي بالأرض، وصار أثرا بعد عين، ويكفي معرفة العدد المرتفع للضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، جراء القصف العشوائي الذي كان يطال كل شيء يتحرك، ويكفي النظر لأحوال المهجرين الممنوعين من العودة إلى مساكنهم المدمرة، وهم يعانون من الجوع، والعطش، والبرد، وانعدام الدواء، للتأكد من وجود إبادة جماعية في قطاع غزة.. ورغم ذلك، يتجرأ الوزراء للادعاء بكل وقاحة، أن الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل لا أساس لها!!!
ووزير خارجية أمريكا صرّح في جلسة حوارية في منتدى دافوس الاقتصادي المنعقد مؤخرا في سويسرا، قائلا: (( ما نراه كل يوم في غزة أمر مؤلم، والمعاناة بين الرجال، والنساء، والأطفال الأبرياء تفطر قلبي)). يا سلام، من الذي يتسبب للفلسطينيين في هذه الآلام التي تفطر قلبك يا سيد بلينكن؟ أليس الجيش الإسرائيلي؟ إنْ كان قلبك يتفطر، فلماذا تعترض على محاكمة مقترفي هذه الإبادة الجماعية؟ وكيف توفر دولتكم التغطية السياسية لها بالفيتو لمنع وقفها بقرارٍ في مجلس الأمن؟ وكيف تساهمون في اقترافها بسلاحكم، وخبرتكم، وأموالكم الطائلة التي تكبُّونها في خزينة الدولة العبرية؟؟؟
أنتم ومن يسير في فلككم، شركاء في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني يا معالي الوزير بلينكن. فرجاء ارحمنا من التظاهر بذرف دموعك الكاذبة.
*صحافي وكاتب مغربي
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …