د. كميل حبيب*
تعتبر القضية الفلسطينية من أكثر الازمات الدولية تعقيداً، واطولها زمناً، وأعظمها مأساة. ومحمد بلحظ المراقب المنطقة المشرق العربي مدى تشعب التدخلات وتقاطع المصالح الدولية. ففي كل يوم تصور مواقف عديدة عن ما يسمى عواصم القرار الدولي، حتى يبدو للوهلة الأولى وكأن فلسطين تعني دول العالم قاطبة، لارتباطها العضوي بسائل النقط والتجارة وسباق التسلح، آخذين بعين الاعتبار تبدل المواقف تبعاً لتغير المصالح للدول المعنية بالصراع.
القضية الفلسطينية، وان قضية انسانية بامتياز فلا يمكن تجريدها من بعدها العربي . فالمخطط الصهيوني هو مخطط جهنمي، دمر وقتل وهجر سكان الأرض الأصليين حتى حقق أهدافه في جمع اليهود على أرض فلسطين. فالاستيطان الصهيوني يتميز عن كل مشاريع الاستيطان في العصر الحديث، بانه استيطان إجلائي إحلالي يحل المستوطنين محل أبناء الوطن ليتم تبديل السكان وتبديل الهوية.
وعلى الرغم من هذا التوصيف الدقيق لطبيعة صراعنا مع الصهيونية إلا انه لا يمكننا إغفال حرب المفاهيم أو حرب المصطلحات التي شنتها ولا تزال الصهيونية بهدف العبث بطبيعة الصراع الحقيقية، ونزع الهوية العربية عن الشعب الفلسطيني، والانتقاص من القضية كقضية عربية مركزية، وتصوير الصراع على كونه لا يعدو نزاعاً عقارياً.
من جهتنا، فإن صداعنا مع الصهيونية لا يجوز تقزيمه ليصبح مجرد تنازع على الحدود أو على مساحات محدودة من الأرض ، بل أنه صراع حاد بين الإرادات، كما أنه صراع على الحاضر والمستقبل. فلقد تشكل هذا الصراع في بعض جوانبه صراعاً بين الثقافة والحضارة العربية من جهة، والبربرية الصهيونية ذات الانتماء الغربي من جهة أخرى.
إن مصطلح الصراع العربي – الاسرائيلي قد استعمل ولا يزال، لطمس حق المواطنة عن الشعب الفلسطيني، والتنكر لوجوده كشعب وكوطن من جهة أخرى، فإنه لمن الخطورة بمكان اعتبار القضية الفلسطينية قضية تخص الفلسطينيين وحدهم وما في ذلك من إلغاء لارتباطها القومي كمقدمة لاختزالها وتصفيتها على كونها نزاعاً على بقاع محدودة من الأرض.
نبقى في حرب المفاهيم النشير الى ان مشروع الشرق الأوسط الجديد يشكل إطاراً لنزع صفة المركزية عن القضية الفلسطينية، مع الإشارة إلى وجود أكثر من أزمة في الشرق الأوسط. فقبل شيمون بيريس بوقت طويل، وجد آبا ایبان ان الشرق الأوسط منطقة متعددة الثقافات والقوميات، وبأن العرب متعددوا الثقافات والديانات، وهذا ما يبرر، بحسب رأي آبا ايبان، وجود إسرائيل في هذا الشرق لتعيش مع العرب والبربر والأكراد، ومع المسلمين والمسيحيين.
تاريخياً، تماهى موقف الولايات المتحدة تجاه فلسطين مع الهدف الصهيوني (1897) الذي رمى الى إنشاء وطن لليهود في أرض الميعاد ، كما تماهى مع كل المشاريع والقرارات الدولية ذات الصلة، والي لم تكن لتأتي على ذكر فلسطين حتى بالاسم، او لم تكن تشير إلى الشعب العربي الفلسطيني في أدبياتها الرسمية وغير الرسمية :
اتفاقية سایکس – بیلو (1916) منحت الحق لبريطانيا بالاستيلاء على مينائي عكا وحيفا على ان يخضع “الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية”.
وعد بلفور (1917) أشار فيها إلى الفلسطينيين العرب “بالطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين.
جاءت موافقة عصبة الأمم (1924) على اتفاقية سان ريمو (1920) لتكرس الانتداب البريطاني على فلسطين بهدف تأسيس “وطن قومي لليهود” دون التعرض “للحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية”.
لجنة Peel (1938) اقترحت تقسيم فلسطين الى دولة عربية واخرى يهودية .
مشروع كونت برنادوت (1948) اقترح إنشاء اتحاد من عضوين أحدهما عربي والآخر يهودي ضمن حدود الانتداب البريطاني.
في عام 1948 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً حمل الرقم 194 أشار إلى عودة “اللاجئين” ، أي دون الإشارة إلى حقهم كشعب فلسطيني في تقرير مصيرهم، كما تم الإشارة إلى ذلك في قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة:
أ – القرار 242 (1967) أكد الحاجة الى تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
ب – القرار 338 (1973) اكتفى بدعوة الاطراف المشاركة في القتال ( حرب تشرين) الى تنفيذ القرار 242 بجميع مندرجاته دون اية اشارة الى قضية العرب المركزية – فلسطين – التي كانت السبب المباشر وراء اندلاع تلك الحرب.
وبالعودة إلى المواقف الرسمية الاميركية التي سبقت قیام اسرائیل ، نشير الى انه ، ومنذ تقرير لجنة كينغ كراين(1919)، لم يصدر عن واشنطن أي موقف مؤيد للحق العربي في فلسطين :
رفضت واشنطن الكتاب الابيض البريطاني الثالث (1939) الذي حدد الهجرة اليهودية بدخول 75 الف يهودي خلال خمس سنوات، اي إبقاء اليهود بنسبة ثلث سكان فلسطين، اي في وضع الاقلية.
في عام 1942 اصدر الكونغرس مذكرة تؤيد الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
أما الترجمة الأميركية لتوفير الغطاء الاستعاري لأسرائيل والنظر إلى فلسطين كقضية شرق أوسطية فتكمن على النحو التالي:
موافقة إسرائيل على كل ما تقوم به.
اتخاذ موقف معادٍ تجاه أي طرف معاد لأسرائيل.
تحديد علاقة واشنطن مع دول العالم في ضوء علاقة تلك الدول مع تل أبيب.
لقد تجلت هذه الرؤية الاميركية خلال الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة. فالمواقف الأميركية من المجازر الصهيونية جاءت بمجملها خجولة، إن لم نقل مؤيدة. حتى امتناع واشنطن عن التصويت على قرار مجلس الأمن (2728) الذي دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان ما كان ليحصل فقط لأسباب انتخابية. فالحملة الانتخابية للرئيس بايدن أصيبت بخيبة كبرى بعد امتناع أبناء الجالية العربية المؤيدين للحزب الديقراطي من التصويت لصالح بایدن.
ما يهمنا هو التشديد مجدداً على أن قطاع غزة لا يختصر فلسطين، وبأن الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره هو القضية، وليست حماس أو أي فصيل فلسطيني مقاوم .
لقد جعل ” طوفان الاقصى” من القضية الفلسطينية قضية مركزية عالمية، وعلينا واجب عدم التفريط بهذا الإنجاز الهام في الطريق نحو تحرير القدس وكامل التراب الفلسطيني واللبناني والسوري.
*كاتب واكاديمي لبناني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …