د. حامد أبو العز*
إن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة تجسد تعقيدات الحرب الحديثة، حيث تتجاوز هذه الحرب ساحات القتال التقليدية لتشمل الأبعاد العسكرية واللوجستية والتكنولوجية. هذه الحرب هي عبارة عن سيناريو تتلاشى فيه الخطوط الفاصلة بين الجهات الحكومية والشركات العالمية، مما يسلط الضوء على حقبة جديدة من دعم النظام الاستعماري لإسرائيل. ومن الجدير بالذكر أن العمليات الإسرائيلية لا تحظى بدعم الحكومات الغربية والولايات المتحدة فقط؛ بل هي تتلقى أيضًا دعمًا كبيرًا من الشركات العالمية، بما في ذلك شركة GPS البارزة. وتؤكد شبكة الدعم المعقدة هذه على الطبيعة المتعددة الأوجه للحرب الحديثة التي تشنها القوى الاستعمارية، حيث تلعب التكنولوجيا والشراكات العالمية أدوارًا محورية في قتل شعب بأكمله في قطاع غزة.
نظام تحديد المواقع (GPS) هو نظام ملاحي أمريكي يعمل على تحديد الموقع الجغرافي بدقة باستخدام إشارات الأقمار الصناعية. تستخدم العديد من الشركات العالمیة معدات وبرامج GPS لإنتاج كميات كبيرة من المنتجات والتحكم وتوجيه الشحن عبر السفن والتحکم فی مسار الطائرات.
وبطبيعة الحال، فإن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) له بدائل مهمة في العالم، مثل نظام “GLONASS” التابع لروسيا أو نظام “BEIDU” التابع للصين.
وفي خطوة مهمة تؤكد الدعم الأمريكي لإسرائيل، سمح البيت الأبيض بنقل أنظمة أسلحة فتاكة ومتقدمة إلى إسرائيل بقيمة 320 مليون دولار. تم تسهيل هذه الصفقة من خلال الفرع الأمريكي لشركة رافائيل الدفاعية الإسرائيلية، مما يعرض العلاقات العسكرية والتكنولوجية العميقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وتضمنت الصفقة ذخائر متطورة من شركة Space Family، المعروفة بخبرتها في تحويل القنابل غير الموجهة إلى أسلحة موجهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS). ويمثل هذا الدعم مؤشر أخر على تدخل هذه الشركات في الدعم اللوجستي لإسرائيل.
إن اكتشاف التلاعب بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) من قبل إسرائيل والتعاون الوثيق بينها وبين هذه الشركة يزيد من تعقيد الموقف. كشف تود همفريز، الأستاذ في جامعة تكساس، وفريقه البحثي عن هذا التكتيك في أعقاب هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، باستخدام برنامج ADS-B Exchange، وهو برنامج مفتوح المصدر لتتبع الرحلات الجوية التجارية.
من جهته يلقي بريان ويدن، وهو ضابط سابق في سلاح الجو الأمريكي، الضوء على التدابير المضادة الاستراتيجية التي استخدمتها إسرائيل. ويشير هذا الضابط إلى أن إسرائيل تلاعبت بإشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لصرف صواريخ حماس، وبالتالي تحييد قدراتها في التنقل وإعاقة فعاليتها في الهجوم البري. ومع ذلك، يتطلب مثل هذا التلاعب تعاونًا معقدًا بين الحكومة الإسرائيلية وشركات التكنولوجيا، مما يعرض حدودًا جديدة في الحرب الإلكترونية.
لم تکن هذه هي المرة الأولى التي تدعم فيها شركة (GPS) إسرائيل. فبعد اغتيال العلماء الإيرانيين بین عامی 2009 و 2013، توصلت التحقيقات الاستخباراتية إلى أن أدوات الاتصال عبر الأقمار الصناعية التی استخدمها الإرهابيون في عمليات الاغتيالات، والتي تعمل بنظام تحديد المواقع (GPS)، قامت عمداً بتغيير معلومات مواقع الإرهابيين من أجل تضلیل ومنع تعقب الإرهابيين وتحديد أمكنتهم من قبل الحكومة الإيرانية.
وفي السنوات التي تلت عام 2013، وبعد ظهور داعش في سوريا، وبطلب من سوريا، أطلق مستشارون إيرانيون أنظمة كشف وتتبع اتصالات داعش عبر الأقمار الصناعية لمحاربة داعش في سوريا. وفي ذلك الوقت، قام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الأمريكي وشركة “ثريا” للاتصالات الفضائية على وجه التحديد بتشويش المعلومات والإحداثيات الجغرافية للهواتف الفضائية التي كان يستخدمها عناصر داعش، ليتمكن عناصر داعش بسهولة وبعيدًا عن أي تهديد من توسیع نطاق جرائمهم. وبطبيعة الحال، هناك العديد من الحالات والأدلة والوثائق التي تثبت بأن النظام الغربي المجرم دعم داعش والمنظمات الإرهابية الأخرى عبر وسائل متعددة إحداها نظام تحديد المواقع GPS.
وفي الآونة الأخيرة، بعد جرائم إسرائيل في غزة، عاد نظام تحديد المواقع GPS مرة أخرى لمساعدة إسرائيل ومن خلال التلاعب المتعمد بمعلومات الإحداثيات الجغرافية، وقد تسببت هذه الإجراءات في تعطيل أدوات الملاحة الدولية في الأراضي المحتلة واعترف الجيش الإسرائيلي في بيان رسمي بذلك، ووجه الطائرات والسفن التجارية الإسرائيلية باستخدام أنظمة بديلة.
ولكن من خلال تظافر جهود خبراء المقاومة تم تحیید هذا الخطر مثلما حدث في الماضي وتم كذلك الكشف عن مخططات النظام الاستعماري والإسرائيلي وتم إفشال هذه المخططات كما قام أبطال المقاومة بعكس الآثار السلبية لهذه الأنظمة ليتضرر منها المستوطنين الصهاينة، بحیث تم تعطیل خدمات الإسرائيليين واتصالاتهم الأخرى.
لن تتوقف جهود أبطال المقاومة عند تحييد هذا التعاون بل يبدو بأن هناك تنسيق واسع النطاق بين خبراء التكنولوجيا لضرب البنى التحتية لإسرائيل وتعطيل قدراتهم اللوجستية. ورداً على جرائم إسرائيل في الهجوم على المنشآت الدبلوماسية الإيرانية في دمشق، يبدو بأن إيران ستلقن إسرائيل درساً لن تنساه وذلك من خلال استخدام تقنيات متعددة الطبقات واستخدام الخبرات القيمة لمقاتلي المقاومة لشل إسرائيل. ولن ينفع أي تدخل استعماري غربي في إنقاذ إسرائيل من الرد القادم، وذلك لإن صواريخ إيران وصواريخ حزب الله تستخدم أنظمة تحديد مواقع بديلة ولذلك لن تنفع أي محاولات إسرائيلية بالتشويش عليها.
وبدورهم فإن أحرار العالم سيستمرون في دعم شعب غزة من خلال التحديد الدقيق للشركات الشريكة لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) حول العالم ومقاطعة منتجاتها مثلما فعلوا بالنسبة للشركات التجارية والاقتصادية التي تدعم اقتصاد الحرب الإسرائيلي وتموله في حرب الإبادة الجماعية.
ختاماً، يوضح هذا التعاون والدعم المستمر بين إسرائيل والحكومات وشركات التكنولوجيا الأمريكية والغربية والاستراتيجيات التكنولوجية المستخدمة، تطور أدوات الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. ويلقي هذا الدعم المستمر الضوء على أهمية المقاطعة العالمية لمثل هذه الأدوات الصهيونية وهو الأمر الذي لن يتقاعس أحرار العالم عن تنفيذه من خلال خطوات تعاونية وتنسيقية على مستويات محلية وعالمية.
*باحث وكاتب فلسطيني