د. جمال الحمصي*
لو افترضنا قيام أبرز ثماني دول إسلامية، بما فيها تركيا وإندونيسيا وماليزيا والباكستان، بتمويل أكبر برنامج توعوي عالمي بقيمة ثلاثة بلايين دولار للتعريف بآخر الرسالات السماوية وأنقاها وأسرعها نمواً، وبالاستعانة بأقوى شركات العلاقات العامة والإعلام الرقمي الدولية، فلن تتمكن بالتأكيد من التفوق على ما احدثته غزّة الصغيرة من تداعيات كونية في مقاومة الإسلاموفوبيا وفي التعريف بدين الإسلام وبعدالة قضية العالَم/ قضية فلسطين أمام شعوب العالم ككل.
ومما يزيد الأمر غرابة، بروز هذا النتائج والتداعيات الايجابية والمتعاظمة لمعاناة غزّة في مختلف قارات العالم وشعوبها وجامعاتها وبعض حكوماتها ومؤسساتها الدولية رغم قوة ومكر البرامج والهيئات الداعمة للإسلاموفوبيا وللدعاية واللوبي المعادي (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ- الأنفال 36).
ان ما حدث ويحدث باختصار هو معجزة فريدة يصعب تكرارها وسيكون لهاذا الزلزال من المعاناة البشرية المركزة حتما نتائجه واسعة الأثر على تجديد الدّين الحق وربما إعادة تشكيل النظام الدولي ككل. ولا ننسى أيضاً (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ: النساء 104). أما الحجم الفعلي لهذه المعجزة، فستتبلور في المستقبل القريب وفي إحصاءات الداخلين الجدد الى الإسلام في الغرب (إن صدرت بمصداقية ودقة).
لكن كيف حدث هذا؟ ولماذا أعداد كبيرة ومتزايدة من الغربيين يقرؤون القرآن الكريم ويفكرون في التحول الى الإسلام أو تحولوا فعلاً؟ هل من تفسير “علمي” لهذا الحدث الفريد؟ (1) وهل ينتمي هذا الحدث لأثر الفراشة ولما أسميته ب”فقه البغتة”؟ وما دور الدمار الشامل والعقاب الجماعي والمجازر الوحشية والإبادة المميتة المنفذة من قبل دولة الاحتلال والتهجير وداعميها، بما فيها الإمعان في القتل مؤخراً في رفح اليتيمة، في تحقيق هذه النتائج الباهرة وغير المتوقعة؟ وما دور الاعلام الاجتماعي (مثال: فيديو روح الروح)؟
برأيي، فان الأسباب الجذرية لهذا التغيير في الرأي العام العالمي تتوزع بين أسباب سُننية وجودية (محكمة العدل الإلهية)، وأسباب بشرية فطرية ومتأصلة، واعتبارات إعلامية رقمية وأخرى.
وكمختص في فقه السنن الربانية، أعتقد بأن قصة استيقاظ الضمير العالمي مؤخراً هي، في نهاية المطاف، تدخل رباني وأن مصدرها هي “اليد الإلهية”. وحدث هذا إما على شكل تدخل غير مباشر ومن خلال سُنَّة الهية وناموس رباني أو بتدخل مباشر من الإرادة الإلهية، في ضوء كبت التغيير الإيجابي ومنع التدافع البنّاء حول العالم.
فمطالبة طلبة الجامعات في الغرب بوقف الحرب والإبادة الجماعية، على سبيل المثال، هي تعبير غير واع عن سنن ربانية أودعها الله في الكون ولا يمكنك مقاومتها بدون كلفة متزايدة وانهيارات في نهاية المطاف. وتحديداً، فان كلاً من سُّنة التدافع المشترك وسُّنة عقم المكر (الحمصي، 2019) هي قانون رباني استراتيجي ومن أسس الاستدامة الدنيوية ومنع الظلم الممنهج والبحث عن خيارات مجتمعية “تنفع الناس”، خصوصاً عندما يُقمع التغيير بالقوة الغاشمة والاستبداد (2).
ولاشك بأن للتعتيم والمكر المؤسسي مساهمة في تفعيل سُنّة الله في الشفافية وظهور الحق والعدل (يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ: آل عمران 179) و(ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ: الأنفال 42).
وبخصوص الأسباب الفطرية للطبيعة البشرية، تشكل صدمة الدمار الشامل وضحاياها الكارثية وصمودها الأسطوري من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين تفعيلاً استثنائياً لأثر الفطرة الإنسانية وصحيان الشعور الفطري بعدم العدالة، مما أيقظ الضمير العالمي. والإنسان الغربي العادي أصبح بفطرته يبحث عن المعنى والمقصد النهائي للحياة ويعلم نفاق الغرب الرسمي والإعلام التجاري. وتجدر الإشارة بهذا الخصوص، أن القرآن الكريم يسبر أغوار النفس البشرية، فهو يقرأ القارئ وليس العكس، مما يجعله معجزة بحد ذاته.
كما تعد أيضاً من العوامل المساعدة للإقبال على الإسلام: العولمة الإعلامية، وجائحة كورونا، وشيوع الزلازل والكوارث المناخية العالمية، والتحولات العدمية التي تحدث بالغرب ضد الأسرة والقيم وباتجاه البوهيمية والاستهلاكية والتفاهة والإلحاد.