السبت , يوليو 27 2024
الرئيسية / اراء / غزّة..هل تبقّى ما يمكن أن يقال؟

غزّة..هل تبقّى ما يمكن أن يقال؟

نادية حرحش*
في كل مرة أحاول الكتابة، أتوقف أمام المشاهد المتراكمة للدمار والمجازر من جهة، والهوان والعجز الذي نعيشه من جهة أخرى. تبدو اللحظة التي تنعيشها مهمة، أو ربّما الأهم من عقود كثيرة ماضية. بكل أسف، ها وقد وصلنا الى الحضيض الذي بدأ يملأ خرابه ودماره في هذا القعر الذي نستقر إليه، ولا حيلة لنا إلا محاولة تلافي ما يقع على رؤوسنا من مصائب من كل صوب.
أمام هذا العجز نتابع الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة. وكأننا نشاهد فيلما لأساطير بابل واشور واليونان. فيلم خيال علمي اختلط فيه الماضي والحاضر، الحقيقي والخيال، الممكن والمستحيل، بإعجاز فشلت أمامه صناعة السينما ليكون أبطاله أهل غزّة بين صمود ومقاومة.
اليوم نعرف انّنا إذا ما أردنا ان نعرف هذه الكلمات فالمعنى يجسد نفسه بلا عناء أمام غزة. ومن غزة الى جنين وطولكرم ونابلس ورام الله والخليل والقدس ارتدادات تطالنا أحيانا وتتطاير علينا كشظايا أحيانا أخرى.
لا أعرف كيف يمكن لي التّغنّي ببطولة أسطوريّة الطّابع بينما يتم دفع هذا الثّمن الباهظ من الحياة والوجود الإنساني المتمثل بالمجازر المتكرّرة والدّمار غير المتوقف على غزّة وأنحاء الضّفّة من قتل، واجتياحات، وتدمير، واعتقالات.
كيف أصبحت الكلمات تجد مكانها بالوصف، المجازر والإبادة في غزّة وسط حصار محكم، والاجتياحات والتّدمير والاعتقالات والقتل في الضّفّة وسط قيود جامحة.
نستطيع فقط أن نعيد توصيف الرّبح والخسارة بعدما طال الدّمار البشر والحجر بلا هوادة أو رحمة. ربّما اختلف وصف القوّة والضّعف وتعريفه، بينما يتجسّد الضّعف في كلّ هذه القوّة الغاشمة، وتجسّد القوّة نفسها أمام صمود ومقاومة، وسط قتل، وتجويع، وتشريد.
إسرائيل تحاول إعلان انتصارات بقتل ودمار أكبر، وإنجازات بإنقاذ جثث أسرى بدأت تطفو بين ركام وبقايا جثث بعد طوفان.
اليوم التّالي للحرب يبدو مجازيّ التعبير اليوم، يصبح أبعد عن التّحقّق مع مرور كل يوم. وقد تكون دعوة المحكمة الجنائيّة الأخيرة لإسرائيل بوقف العدوان عن رفح، إشارة الى أنّ هذه الحرب بعيدة عن الانتهاء.
بعد مرور كل هذه الأشهر، لم يعد من أشعل شعلة هذه الحرب ولا من أحرق الأخضر واليابس يتذكّر من مطالبه الّا ارتدادات غضبه المتعاظم وسط تآكل الأرض وتهالك البشر. ولكن بينما يقف الجميع على خراب لم يعد بالإمكان حصره، يصبح الخراب قاعدة تبنى عليها تكتيكات المرحلة الحاليّة.
لم يعد هناك ما يجب الخوف عليه، فالدّمار شامل، والإبادة تحقّق أهدافها بمجازر يوميّة، والعالم وضحت مواقفه بين تغوّل وبطش إسرائيلي تدعمه أمريكا وتوابعها من دول تخشى من لحظة تاريخيّة جديدة يتشكّل فيه العالم الجديد لا تكون على الجانب الأقوى والرابح فيه، كما حصل في الحرب العالميّة الأولى والثانية. وبين شعوب لا تزال معالم حقوق الإنسان شاملة في عيونهم بلا تحيّز للون أو عرق أو دين. وهنا نجد أنفسنا في هذه اللحظة التاريخيّة التي وضعت العالم بين “فلسطنة” أو “أسرلة”. قد يكون الفرق في المصطلحين هو ” أسرلة” الوجود من حولنا لنتنبه أنّ هذه المحاولة لم تقتصر على الفلسطينيين، وعلى الرغم من استخدامنا لمصطلحات أخرى على مرّ السّنوات من ” صهينة” او ” تهويد”، نجد أنفسنا اليوم أمام لحظة تبدو حقيقة “تبشيريّة” ينتظر فيها ظهور “المسيح” او ” المهدي”. لا يهم لأي طائفة ينتمي هؤلاء، ولكنهم على ما يبدو يصدّقون هذه ” الأدلجة” للعقول التي نجحت بعمى العيون والقلوب عن الحرب الغاشمة على غزّة.
لم أصدق يوماً نظريات المؤامرة او بالأحرى رفضت أن أقع في شرك تصديقها، لأنّها تجعلنا أسرى لقوّة شيطانيّة خفية لن نقوى على التّصدّي لها. ولكن ما نراه اليوم من تغوّل للظّلم واستقواء وبطش من كل اتّجاه امام هذه الكارثة الإنسانيّة الحقيقيّة، قسم العالم إلى فريقين. فريق ظلّام ظلمة وفريق مظلومين يفرض عليهم الظلام عنوة، وكأنّ هذا العالم خلق لهم ومن أجلهم، ومن عليه من الآخرين ليسوا إلّا خدماً وعبيداً وتُبّعاً في أحسن أحوالهم.
لطالما تساءلت كيف يمكن للمرء الا يتأثر بالقتل والظلم وسفك الدماء. لأن العالم كان دوماً عالماً منقسماً كفلقة بيننا وبينهم. هناك “هم” و”نحن”. طالما “الآخر” ليس “نحن” فلا ضير من قتله وسفك دمه ومحوه عن الوجود. لأننا في الحقيقة نحيا حرب صراع وجود لا مجرد بقاء… فإما “نحن” او ” الآخر”.
ربما لا تستدعي هذه المرحلة أي تحليل، فلقد تم استنفاذ كل ما يمكن تحليله ليقف الجميع امام ما حلله او توقعه ليكون عين الحقيقة. لأننا بكل بساطة نقف الآن ما بعد التّحليلات. لا يوجد أمامنا إلّا مساحة لتأمل الأحداث باندهاش من صدمته حافلة او ارتطم أمامه نيزك. فلم يتخيّل أحد “منّا” انّ الدمار الذي وقع على غزّة كان ممكناً، لأننا بكل بساطة لم نتوقع ان للوحشيّة تجسيداً ممكناً. ظننّا أنّ العالم الذي نحياه عالم حقوق إنسان وقوانين إنسانيّة دوليّة لها خطوطها الحمراء، فلا بد من رادع لهكذا شرور. ولكن ما بعد الصدمة والاندهاش هو قدرة الانسان على التحمل والتأقلم من جهة، والإصرار والمقاومة من جهة أخرى، وكأن الإنسان يعيد تشكيل نفسه من قلب الدمار. يبدو المشهد القادم من غزة أقرب لخيال خارج من عالم الاساطير. وكأنها حرب عمالقة وكائنات فضائية. يخرجون من تحت الأرض ومن تحت الأنقاض والركام أقوى، وكأن الضرب والدمار كلما اشتد أكثر، بث من تلك الشرايين النازفة دماء اقوى.
ربما يكمن الأمر وببساطة أكثر، كلما اشتدّ البطش زادت المقاومة. مبدأ لكلّ فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتّجاه هو ما نراه اليوم في غزّة وأنحاء الضّفّة الغربيّة. لقد مرّ عمرنا ونحن نردّد شعارات بطولات ومقاومة، لا يمكن فهمها كما نفهمها ونعيشها الآن.
*كاتبة فلسطينية

عن اليمن الحر الاخباري

شاهد أيضاً

يوم عرف العالم حقيقة الكيان!

  د. أماني سعد ياسين* ما شعرت بالأمل يوماً كهذا اليوم! نعم، ما شعرتُ بالأمل …