علي الزعتري*
من الذي ينتصر في حرب الطوفان؟ سؤالٌ له أكثر من إجابة.
ربما يجب أن نقسم “النصر” على أجزاء قد تكون غير متساوية في الثقل. النصر العسكري والسياسي والمعنوي والإعلامي والاستراتيجي المؤسسي والشعبي غير المؤسسي والتاريخي والمستقبلي الاستشرافي والجغرافي وبالطبع الإنساني بما يخدم البقاء الإنساني و عمارةَ حياته. ونقسمه كذلك حسب الجهة المتجاوبةَ مع السؤال.
أعتقد أن الصهاينة لم يتوقعوا جراءةً من المحكمة الجنائية وبعدها بقليل تصريح إيرلندا وإسبانيا والنرويج بالاعتراف بدولة فلسطين و قبلها تصويت الجمعية العمومية على هذا الاعتراف. صحيحٌ أن قرار المدعي العام شمل قادةَ المقاومة لكنه وضعهم بنفس مرتبة الصهاينة الذين صعقوا من هذه المساواة الجنائية وهم يعتبرون أنفسهم فوق الجميع، و حاشا للهِ أن يتساوى القاتل الصهيوني مع الضحية المقاوم لكنها سياسةٌ تمارسها المحكمة للتوازن الغادر. كما صَعَقَ الصهاينةَ مظاهراتُ الجامعات والفنانين العالميين و اليهود المناهضين فيما بدا أن الساعة تدق مؤذنةً بزوال التأثير الصهيوني على العالم. بالطبع لم تتأخر الإدارة الأمريكية للدفاع عن الصهاينة ودُعِيَ المجرم النتن ليتكلم أمام جلسةٍ مشتركة للكونغرس فماذا سيكون موقف السيناتور ساندرز وهو قد هاجم هذا المجرم علانيةً؟ لا ندري، غير أن الإدارة الصهيونية في الإدارة الأمريكية تبذل قصارى الجهد لتخليةِ الصهيونية من التهم والمعارضة. وقد تنجح.
سبقَ وقلتُ في مقالةٍ سابقة أن المنظور الديني للمعركة لا يختلف في الإعدادات بين المسلمين واليهود (ومن يساندهم من عتاةِ اليمين المسيحي)، فهو منظورٌ بعيدُ المدى ويعتمد على إيمانٍ عميقٍ بأحقيةِ الطرف في الأرض، في فلسطين و الكرة الأرضية! هذا المنظور والبعد الزمني يجعل من إعلان الانتصار مرحلياً، ويجاهد فيه الطرف الأقوى (الصهيونية) لاختصار الوقت باللجوء لسياسةِ الإفناء وهي سياسةٌ تستهدف كيان وحضارة وثقافة وعدد وعديد الشعب الفلسطيني. ما هو طول المدى البعيد؟ سيقول أحدهم: إلى أن ينتهي الشعب الأضعف و يستسلم، مثلما حصل مع شعوبٍ أصيلةٍ ابتلعتها وحشية الاستعمار. أو، إن طالَ القتال، فالأفضل هو تقتيلَ الأضعفَ باستمرار وانتهاك حرماته حتى تنتكسَ إرادتهُ و يقر بالهزيمة. وهذا ما تفعله الصهيونية وتريده من فلسطين. على الطرف المقابل توقِفُ المقاومة حربها مع الصهيونية على مبدأ أن النصر آتٍ بالوعد الإلهي وأن ما تفعله الآن هو الانتصار المتدرج بدءاً بإبقاء الشعب حيَّاً في كل النواحي والمآرب. في هذه الحرب طويلة المدى لا ينظر الطرف الأكثر إيماناً للمعارك نظرةً مرحليةً بل على أنها مراحل في حربٍ دهرية و طالما بقي الطرف حيَّاً يقاوم فهو ينتصر حتى إن بدا أنه يُهزم.
استطاعت وتستطيع الصهيونية أن تُرِيَنا عُمقَ بطشها في غزة ومقدار نفوذها في العالم خاصةً الغربي مع بعض التفاوت في حدة مواقف دول غربية لكن مع هذا فإن الصهيونية ترى أن هيمنتها ونفوذها يتعرضان لتقويضٍ خطيرٍ ينتج عن كشفٍ للوجه والمحتوى الصهيوني الإجرامي الذي تخفيه الصهيونية بضرواةٍ لكنه افتلتَ من العقال وظهر للعالم الذي لم يستطع تجاهله وتبريره. يتضح للصهيونية أن بطشها كشفَ عورتها ولم يؤَّدِ للانتصارِ المعتاد الذي تتوقعه. مَرَّت الحرب منذ ٧ أكتوبر بثلاث مراحل. الإنتشاء الفلسطيني الموازي للصدمة الصهيونية ثم الصعقة الصهيونية في غزة المجابهة بمقاومة باسلة ثم سياسة الإفناء الصهيونية والصبر الفلسطيني المقترن بالانبعاث والذي كافئه العالم بالدهشة ثم التأييد له والإدانات الصادمة للصهيونية.
لكن إعلان النصر الحاسم يبقى رهيناً للمنظور الديني، حين يأتي النصر بمفهومه الكامل وهذا لا يعلمه أحد، و رهيناً للتطورات البينية الخاضعة للقوة والصمود، في كل المحاور، للطرفين. وعليهِ فإن تجريف غزة هو انتصارٌ للصهيونية، وقتلَ وإعاقة مائة ألف فلسطيني هو كذلك انتصارَ عقوبةٍ من مجرمٍ على ضحيةٍ لا يمكن نسيانها. و خروج المقاومة من غزة مبدأً وعملاً وإحلال حكمٍ مكانها تُسَيِّرُهُ تل أبيب و واشنطن هو انتصارٌ كذلك، لو حصل. فما هو الانتصار للفلسطينيين بالمقابل؟
إن مجرد وقوف المقاوم الفلسطيني ومقاومته الفعَّالة لهذه الفترة الطويلة هو الانتصار. كما أن إحياء فلسطين بعد مواتها الأوسلوي اللارسني هو النصر الواضح. وفي هذين الانتصارين تكمن المقدمةَ الجسورةَ للانتصارِ الختامي بتحرير فلسطين، الأرض، من البحر للنهر، كما قالت إسبانيا بشجاعةٍ حَرِّيٌ بها أن تُخجِلَ عرباً وفلسطينيين يتكلمون عن دولتين. إن النصرَ الفلسطيني انتصاراتٌ متتاليةٌ فكل هزيمةٍ للصهيونية هي انتصارٌ لفلسطين. أما ذلك النصر الأخير الملحمي فلا يمكننا التكهن بيومهِ وإن كنا نؤمن بحتميتهِ عند حصولهِ بانتصارنا بإذن الله. وما علينا الآن إلا الانتصار فيما استطعنا إليهِ سبيلاً.
*كاتب اردني ودبلوماسي أُممي سابق