د. كمال ميرزا*
“السلام المفقود” هو عنوان كتاب لـ “دينيس روس”، المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط على مدار (12) سنة أيام إدارة الرئيس الجمهوري “جورج بوش الأب” وإدارتي الرئيس الديمقراطي “بيل كلينتون”.
عبارة “السلام المفقود” تشير إلى إخفاق الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” أواخر أيام إدارته الثانية بإقناع الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وتحديداً إقناع الرئيس الفلسطيني المغدور “ياسر عرفات”، بتوقيع اتفاق سلام نهائي وفق مجموعة من المبادئ أو المعايير التي وضعها (The Clinton Parameters)، أو ما يطلق عليها البعض اسم “مبادرة كلينتون” للسلام.
إلى جانب “السلام المفقود” هناك مَن يطلقون على هذه المبادرة وصف “الفرصة الضائعة”، وذلك في معرض التباكي على هذه الفرصة “التاريخية” التي فرّط بها الرئيس “ياسر عرفات”.
المشكلة أنّك عندما تعود وتقرأ مبادئ أو معايير “كلينتون” ستجد أنها “خازوق تاريخي” وليست فرصة، ولا تمثّل من قريب أو بعيد اتفاق سلام بمقدار ما أنّها إعلان كارثيّ للهزيمة والاستسلام، وتصفية القضية الفلسطينية، ومنح الصهاينة حقوقاً وشرعيّةً ما كانوا ليحلموا بانتزاعها إطلاقاً مهما حاربوا.. لدرجة أنّ “ياسر عرفات” نفسه قد رفض هذه “الفرصة”!
تخيّل، أن يرفض “ياسر عرفات”، وهو الذي اقترف خلال مسيرته ما اقترف من أخطاء بحق النضال الفلسطيني، وهو الذي قدّم ما قدّم من تنازلات للصهاينة في “اتفاقية أوسلو” (التي هندسها محمود عبّاس)، أن يرفض “مبادرة كلينتون”، هذا وحده كافٍ لكي يعطيك مؤشّراً على فحوى هذه المبادرة وحقيقتها!
بكلمات أخرى، حتى “ياسر عرفات” قد كان لديه حدٌّ أدنى للتنازل هو غير مستعد للنزول تحته، وقد دفع حياته ثمناً لذلك!
هناك مَن يدّعي أنّ رفض “عرفات” كان من قبيل المناورة، وأنّه كان يطمح بالحصول على صفقة أفضل من خلال التفاوض سرّاً مع زعيم المعارضة “الإسرائيلية” في حينه المأفون “أرييل شارون” بدلاً من رئيس الوزراء “إيهود باراك”.. وما المشكلة في ذلك إذا كانت الصفقة التي بين يديه خبيثة و”زبالة”!
المهم أن “دينيس روس” قد حرص في كتابه المُغرِض “السلام المفقود” على الإيحاء بأنّ “التخلّص” من “ياسر عرفات” قد تمّ بقبول أو تواطؤ عربي ضمنيّ، وذلك من خلال تعمّده إيراد حيثيات وتفاصيل واقتباسات توحي بذلك، وترديده لهذه الحيثيات غير مرّة في العديد من المقالات والمحاضرات والمقابلات.
الاقتراحات الأخيرة التي قدّمها الرئيس الأمريكي الخَرِف “جو بايدن” من أجل وقف القتال وإرساء الهدنة في غزّة هي أسوأ وأخبث بأشواط من معايير “كلينتون” ومبادرته الغابرة.. ومع هذا فهي تلقى منذ أن ألقى خطابه تهليلاً وتزميراً وتطبيلاً لا يتناسب مع خباثة مضمونها!
والتمثيليات السمجة التي تحاول إظهار “نتنياهو” بمظهر الكاره لمقترحات “بايدن”، والقابل بها مُرغماً أو على مضض، وتصوير ذلك كلّه وكأنّه إنجاز مهول تمّ انتزاعه وفرصة ثمينة لا ينبغي على المقاومة وأهل غزّة التفريط بهما.. هذه التمثيليات هي محاولة للتمويه على حقيقة أنّ هذه المقترحات تأتي في إطار السعي لانتشال الكيان الصهيوني من ورطته، وحفظ ماء وجهه، وتصويره وكأنّه صاحب اليد العليا رغم كلّ الإذلال الذي تعرّض له، وسلب المقاومة وأهل غزّة إنجازاتهم والأثمان التي دفعوها لغاية الآن وتفريغها من مضمونها، وتمهيد الأرضية لترتيبات لاحقة لا تخرج عن إطار عصا الطاعة الأمريكية وهيمنتها ونفوذها.
على الأغلب سترفض المقاومة الفلسطينية مقترحات “بايدن”، حتى وإن جاء الرفض على شكل إبداء ملاحظات وتحفّظات معيّنة إزاءها، والمطالبة بإدخال بعض التعديلات عليها.. وذلك للأسباب التالية:
ـ أولاً: لأنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا تصلح كـ “ضامن” نزيه، ولا يمكن الوثوق بها لتضمن أيّ شي ولا حتى لعبة “دواحل” في حارة!
ـ ثانياً: لأنّ المقاومة أذكى من أن تنطلي عليها العبارات المطاطة و”المغمغمة” وحمّالة الأوجه التي تصرّ أمريكا دائماً على التذاكي وتضمينها في خطاباتها ومبادراتها وكلّ ما يصدر عنها.
ـ ثالثاً: لأنّ المقاومة أذكى من أن ينطلي عليها الأسلوب الأمريكي الخبيث: امنحنا ما نريد الآن وحالاً ونعدك بمنحك كلّ ما تريد غداً.. طبعاً بعد التفاوض والتفاوض والمزيد من التفاوض!
رابعاً لأنّ “بايدن” قد أصرّ في خطابه على نفس نبرة الغطرسة والمكابرة والعنجهية الأنجلو- سكسونية الصهيونية الاستعمارية المقيتة!
خامساً لأنّ حرب الإبادة والتهجير الهمجيّة التي تُشنّ على أهل غزّة هي في حقيقتها حرب أمريكية يخوضها الكيان الصهيوني بالوكالة، وبالتالي فإنّ أي اتفاق هدنة حتى يتمّ ويؤتي أُكله فهو بحاجة لضمانات ضدّ أمريكا وليس ضمانات تمنحها أمريكا!
سبقَ وأن طالبتْ المقاومة بضمانات تقدّمها دول تسبح خارج الفلك الصهيو- أمريكي مثل روسيا والصين، وغالباً ستعاود المطالبة بذلك.
وربما ستدعم المقاومة فكرة عقد مؤتمر دوليّ للسلام كذلك الذي نادت به الصين أكثر من مرّة، وذلك لسحب البساط من تحت أمريكا وكفّ يد احتكارها المنحاز والمجرم لملف السلام في الشرق الأوسط.
السؤال المهم: تواطؤ غالبية الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني وأمريكا قد كان بادياً للعيان منذ اليوم الأول لـ “طوفان الأقصى” باعتبار أنّ القضاء على المقاومة هو هدف مشترك يوحّد قلوبهم وشبكات تنفّعهم ومصالحهم جميعاً.. فهل ستتخذ الأنظمة العربية (والإسلامية) من رفض المقاومة المتوقّع لمقترحات “بايدن” ذريعةً لنزع القناع عن وجهها نهائيّاً، والتكشير عن أنيابها، والتعبير عن انحيازها وانقيادها التام للصهيوني والأمريكي جهاراً نهاراً.. وذلك بحجّة أنّ المقاومة هي التي تصرّ بعنادها على إضاعة فرصة “السلام المفقود” كما فعل “ياسر عرفات” من قبل؟!
هذه المرّة أظنّ أنّ التعبير الذي سيُستخدم هو “الازدهار المفقود” بكون الازدهار هو العنوان المرفوع لتبرير كل التآمر والسفالات التي تجري على قدم وساق حاليّاً!
قد تحبُّ “عرفات” وقد تُبعض “عرفات”، ولكنّك في لحظة تتمنّى لو كان للزعماء العرب والمسلمين الحاليين حدّاً أدنى لا ينزلون عنه كما كان لعرفات!
*كاتب اردني