د.طارق ليساوي*
تتجه أنظار العالم هذه الأيام صوب قبلة المسلمين، حيث تحتضن مكة المكرمة أكبر تجمع بشري يعرفه العالم، بمناسبة أداء مناسك الحج، ويعد الحج الركن الخامس من أركان الإسلام الخمسة فقد قال تعالى في محكم كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران : 96-97]، فالحج شعيرة دينية الغرض منها بداية، تزكية النفس و بدل الجهد المادي و المعنوي و البدني تقربا لله تعالى، وتوثيق عبودية ححاج بيت الله ، بالله الواحد الصمد الذي لا شريك له ، وتربية النفس الخاضعة لجلال الله على ذكر الله، وتذكير الناس بالآخرة، و تزكية النفس وترويدها على الصبر والتزام النظام..
كما أن الحج بمثابة مؤتمر إسلامي عالمي ينعقد كل سنة، و يأتيه المسلمون من كل فج عميق تلبية للنداء الخالد الذي وجهه سيدنا إبراهيم عليه السلام بأمر ربه:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج : 27-28]. وهذا التجمع البشري له أبعاد سياسية و حضارية و تربوية تخدم قضايا العمران..
غزة تنحر و تباد:
و حج هذه السنة يأتي و جزء من الأمة -غزة- ينحر و يباد بدم بارد منذ نحو 9 أشهر من قبل حلف صهيو-صليبي، و صمت عربي و إسلامي غير مسبوق، بل و تحالف بعض النظم العربية التي وسعت خيارات الاحتلال الصهيوني، غزة تذبح و يسفك دمها دفاعا عن المقدسات الإسلامية و في مقدمتها “المسجد الأقصى ” أولى القبلتين و ثالث الحرمين، و هذه الأيام المباركة ستتوج بإحياء شعيرة دينية عظيمة المكانة و عميقة الدلالة و أعني يوم النحر..
في الوقت ذاته تتواصل جريمة الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزة في شهرها التاسع على التوالي.وتأخذ هذه الإبادة الجماعية أشكالا متعددة ومتصاعدة، وهدفها الأبرز هو القضاء على مظاهر الحياة الإنسانية في القطاع وسط صمت عربي وعالمي مريب.و في يوم عرفة و قبل يوم على حلول العيد تخلو شوارع غزة من مظاهر الفرح والسعادة، إلا من مشاهد الدمار، والقصف الإسرائيلي.
– نحر الأضحية:
هذا اليوم يحمل دلالات بالغة الأهمية و رموز سيميائية ينبغي استحضارها و استيعابها واستخلاص العبر منها ، فنحر الأضحية في موسم الحج هو تجسيد لرؤيا النبي إبراهيم عليه السلام عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ، إذ قال تعالى في كتابه العزيز : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)(سورة الصافات) و نستخلص من هذه القصة العديد من الدلالات التي نفتقدها اليوم في حياة الفرد و الجماعة ولعل أبرزها:
من طلب الموت وهبت له الحياة:
الكل يعلم أن إبراهيم عليه السلام رزق الولد هو و زوجته بعد طول انتظار وفي سن ميئوس منها، ولذلك فإن مجئ الولد في هذه الفترة مدعاة إلى التمسك به و إيثاره على النفس ، فكيف يذبح ابنه بعد أن بلغ السعي؟ لكن إبراهيم عليه السلام استبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى ، فحصل على نعيم الدنيا و الآخرة معا..فمن” طلب الموت وهبت له الحياة ” فسيادة داء الوهن بجسد الأمة و الحرص الشديد على العيش دون نظر إلى غاية أو هدف جعل حياة الأفراد صفرا و الأمة غثاءا ، و هذه الأمة أمة رسالة أخرجها الله تعالى من رعي الغنم و الابل لتصبح راعية للأمم ..فتخلت عن رسالتها فأصبحت مستباحة الدم والعرض…
معركة الحق و الباطل
إبراهيم عليه السلام وهو الشيخ الكبير و النبي المرسل لم يتورع في مشورة ابنه في مسألة الرؤيا و إشراكه في اتخاذ القرار رغم أن الابن لم يتعدى على الأرجح العشر سنوات ..فمن منا اليوم يشرك أبناءه في اتخاذ القرار؟ و من هذا الحاكم الذي يستمع لرأي الشباب..؟ أليس مصير الشباب العربي هو التنكيل و الاعتقال و تكميم الأفواه؟
كما أن امتحان الذبح جاء بعد معركة عقدية وفكرية خاضها إبراهيم الفتى مع قومه و مع الملك الظالم المتجبر النمرود، فانتصرت دعوة إبراهيم و كتب لها البقاء إلى يوم الدين بينما انهزم معسكر الشرك و الظلم ، وكذلك سينتصر و لو بعد حين ..
ما أريكم إلا ما أرى
إن استحضارنا لتاريخانية و سيميائية قصة الذبح الغاية منه إسقاط ذلك على واقع الأمة الحالي، واقع لا يختلف كثيرا عن ما مر به إبراهيم عليه السلام، فالظلم و الظلمة لازالوا ينكلون بالأحرار، و لازالت عبارة “ما أريكم إلا ما أرى” سائدة في أوساط حكام العديد من أقطار العالم العربي و الإسلامي، ولازال السجن و الطرد و التشريد و سفك الدماء هو ذات الأسلوب الذي يواجه به الأحرار و أصحاب الفكر ..
ما أشبه اليوم بالأمس و ما أعظم القرآن، هذا القرآن الذي يحمل كنوزا معرفية و توجيهات ربانية كفيلة بإنقاذ الأمة من تيهها الذي طال في الزمان واتسع في المكان ، فمآسي الأمة في عيدها كثيرة، و كل سنة تشهد رقعة المآسي اتساعا و تمددا، فبعد مأساة فلسطين المغتصبة ظلما و عدوانا من قبل الصهاينة منذ مطلع القرن الماضي، ومأساة الصومال و اريتريا و لبنان و أفغانستان و العراق واليمن و ليبيا و سوريا ، لائحة الدماء و الدمار لا تكاد تنتهي، هذا دون أن ننسى شعوبا و أقليات إسلامية تعاني الظلم والاضطهاد في مشارق الأرض و مغاربها ..
تحريف مقاصد الحج
لكن الحج في زماننا إنحرف كثيرا عن المعاني السامقة و المقاصد السامية التي حددها كتاب الله و سنة رسوله ، و من ذلك قوله تعالى : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)(آل عمران:97) و المقصود حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء ، وهذا الأمر كان معلوما و معمولا به حتى في الجاهلية ، و الأمن المذكور في القران الكريم هو من خصائص بيت الله الحرام بمعنى الأمن على النفس عند دخول الحرم من الإيذاء والقتل من قبل الجبابرة وأيضا من يدخله آمنا من الانتقام والتشفي. ويمكننا القول أن آمن الحرم في الجاهلية كان آمنا من الهدم والغرق وكان أمانا لأهله من القتل من الظالمين وكان أمانا لمن دخله من الناس فكان الناس يرون قاتل بداخله ولا يمسوه بسوء حتى يخرج منه كما أنه أمان لأهله من فتنه المسيخ الدجال أخر الزمان. قَال الحسن البصري: ” كَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ، فَيَضَعُ فِي عُنُقِهِ صُوفَةً وَيَدْخُلُ الْحَرَمَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الْمَقْتُولِ فَلَا يُهَيِّجُهُ حَتَّى يَخْرُجَ.”
ترويع حجاج بيت الله بحثا عن التصاريح
أعلنت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس) يوم السبت 08-06-2024 أن القوات الأمنية ضبطت أكثر من 300 ألف شخص غير مسجلين لأداء الحج، قبل نحو أسبوع من بدء مناسكه.ومن بين من تم ضبطهم في الأيام الأخيرة 153 ألفا و998 أجنبيا جاؤوا بتأشيرات سياحية بدلا من تأشيرات الحج..
و صرح مستشار اللجنة الوطنية للحج والعمرة سعد القرشي لـ بي بي سي إنه “لن يتم التسامح مع أي شخص لا يحمل تأشيرة حج ويجب أن يرجع إلى بلده”. لافتاً إلى أن الحجاج غير النظاميين يُضبطوا عبر بطاقات (نسك) التي تمنح للحجاج الرسميين وتحتوي على باركود للدخول إلى المشاعر المقدسة..وبحسب القرشي “تُهاجم الشقق السكنية التي يتواجد فيها مخالفون وإخراج الناس منها وإبعادهم عن مكة المكرمة إلى منطقة جدة ومن ثم ترحيلهم إلى دولهم”.
و أضاف “بعض السماسمرة وضعاف النفس يتكسبون من الراغبين بالحج، ويشجعونهم على استخدام تأشيرات الزيارة لأداء الحج، وهي تأشيرات لا تخول حامليها لأداء الفريضة”.
الحرمين الشريفين و الاحتكار السعودي
ما قاله السيد “سعد قرشي” يدفعنا إلى التساؤل عن دور الحكومة السعودية في الإشراف على إدارة و رعاية شؤون الحجيج، والمكاسب المالية والمعنوية التي تحصل عليها مقابل تواجد المقدسات الإسلامية على أراضيها، و من خلا تعقب الخطب و المواقف و الإجراءات، يدرك المتابع بوضوح و يستنتج بجلاء ما تعانيه الأمة من زيغ و انحراف عن جادة الصواب، لاسيما في باب استغلال الدين من قبل الأنظمة الحاكمة ، والتفسير المغلوط والمنقوص و المحرف لنصوص الدين من قبل علماء السلطان، الذين اختاروا الاصطفاف إلى جانب الحكم الجبري المستبد، بدل الاصطفاف إلى جانب الأمة و قضاياها المصيرية…
كما يلاحظ المتتبع للأخبار المتعلقة بالحج تزايد أهمية الأرقام و الإحصائيات حول مداخيل الحج و العمرة لدى رجل الشارع العربي و الإسلامي، و لعل هذا الاهتمام المصحوب بالنقد و الاستهجان راجع إلى المواقف السياسية للحكومة السعودية تجاه العديد من القضايا التي تهم العرب و المسلمين، واصطفاف السعودية في معسكر المعادين للإسلام و لمصالح الأمة و يكفي كأمثلة سعي النظام السعودي لتطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني رغم ما إرتكبه و يرتكبه من جرائم دموية في حق شعب مسلم ، وهي مواقف لا تليق بدولة و شعب شرفهما الله بخدمة الحرمين الشريفين…
– محررين و معلمين
فأهل الحجاز لهم فضل على باقي المسلمين منذ فجر الإسلام ، فالنبي محمد عليه السلام بعث بمكة و عاش و ارتحل و مات ببلاد الحجاز، أي بين مكة والمدينة المنورة، وصحابة رسول الله من خير الخلق و أشرفهم، فهؤلاء كان لهم فضل في نشر نور الإسلام في مختلف أرجاء المعمورة ، ولم يكونوا غزاة أو جباة أو مستعمرين، و إنما كانوا محررين و معلمين، علموا الناس معنى الحرية و الكرامة والعدل..و ناهضوا الظلم و العبودية والبغي..
لكن للأسف، انحرفت ارض الحجاز عن جادة الصواب، فالحج أصبح موردا ماليا و سياحة دينية تذر أموالا طائلة، ومنبر رسول الله أصبح يوظف لخدمة أجندة سياسية ضيقة الأفق بدلا أن يكون خدمة لصالح عامة المسلمين …
الحج و العمرة مورد إقتصادي
الحج و العمرة مورد اقتصادي بالغ الأهمية للسعودية، فقد بلغ حجاج هذه السنة أكثر من مليون و200 ألف حاج ، مقارنة بي 1.8 مليون حاج في موسم الحج عام 2023، و 2.5 مليون حاج في عام 2019، و نحو 10 آلاف شخص في موسم كورونا 2020 ، و نحو 59 ألف شخص سنة 2021 ، و أكثر من 600 ألف في عام 2022 و قد بلغت نفقات الحجاج من الداخل و الخارج أزيد من 7 مليار دولار ..
و مقابل هذه المداخيل فالسعودية بدورها تتحمل تكاليف فهي تتولى نشر أزيد من مئة ألف عنصر أمن للحفاظ على سلامة الحجاج، و نحو 17 ألغ من موظفي الدفاع المدني مدعومين بحوالي 3000 مركبة،كما تم تجهيز عشرات الآلاف من الخيام المكيفة في منى ، بين منى و عرفات و مكة لتأمين مقار إقامة للحجاج، كما تم توظيف أزيد من 700 طباخ سعودي لإطعام الحجاج ، كما تم ذبح حوالي 700 ألف رأس غنم كأضاحي يوم النحر..
فحرص السعودية على توفير حج أمن لكافة الحجاج مجهود تشكر عليه، لكن عليها أن تراعي جانب الكلفة، فتكاليف الحج أصبحت جد مرتفعة و لا يستطيعها 90 في المئة من المسلمين،وهم بذلك يحرمون قسما كبيرا من المسلمين من أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، فسيادة الإنفاق المظهري في الأماكن المقدسة أمر فيه مجانبة ، إذ أن هناك إسراف و تبذير للموارد، فبعض الشعوب الإسلامية أحق بهذا الإنفاق، و من ذلك إخوتنا في غزة و اليمن و السودان ..
و في الختام، نتوجه للمولى عز وجل في يوم عرفة و نقول ما قاله نبينا الكريم محمد عليه الصلاة و السلام “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير” و نسأل المولى عز و جل أن يرفع عن أهلنا في غزة الظلم والعدوان، وان ينصرهم على أعدائهم..اللهم يا كريم يا ودود اشفِ جرحَهم وارحم شهدائهم وارزقهم الثبات والصبر في وجه الصعاب..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
*كاتب وأكاديمي مغربي