مهدي مبارك عبد الله*
قال تعالى ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) صدق الله العظيم
في بيان عاجل اعلنت القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط ( سنتكوم ) يوم الجمعة الماضي 14 / 6 / 2024 انها ستنقل موقتاً الرصيف العائم المعروف باسم الخدمات اللوجستية المشتركة على الشاطئ ( JLOTS ) والذي شيدته قبالة ساحل غزة في منطقة بعيدة عن مركز المدينة تسمى ” البيدر” تخضع بالكامل لسيطرة قوات الاحتلال ولاعتبارات السيطرة الأمنية اعتمد هذا المكان رغم وجود أرضية ولسان بحري جاهز في ميناء غزة القديم الواقع غرب القطاع.
على نحو سريع وحذر يتم تفكيك وسحب الرصيف العائم إلى ( ميناء أشدود ) الإسرائيلي بسبب صعوبات عمليات التحميل والتفريغ ولغايات حمايته من الانهيار نتيجة الأمواج العاتية التي يُتوقّع أن تضرب المنطقة على ان يعاد تثبيته على ساحل غزة بعد انقضاء فترة ارتفاع مستوى البحر وهو ما يثير مزيد من التساؤلات حول جدواه المعلنة بإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة كونه لن يتمكن من تعويض الكميات التي تدخل عبر المعابر البرية الستة إلى غزة ( بيت حانون إيرز وكارني وناحل عوز وكرم أبو سالم وصوفا ) بالإضافة إلى معبر رفح الرئيسي بعد حصار مشدد وعدوان مدمر أدى إلى حرمان سكان القطاع البالغ عددهم 2,4 مليون نسمة من المياه النظيفة والغذاء والأدوية والوقود.
الجيش الأميركي انجز بناء الرصيف العائم في منتصف شهر أيار الماضي من ركام المنازل التي دمرتها قوات الاحتلال خلال الحرب بمساحة (281.4 دونم ) وبكلفة تبلغ نحو 320 مليون دولا وقد استغرق العمل حوالي 60 يوم واستخدام قرابة ألف من العسكريين الأمريكيين معظمهم من قوات الجيش والبحرية لغايات تقل المساعدات عن طريق البحر من قبرص إلى غزة وبعد تعرضه لعدة مشاكل فنية بسبب الظروف الجوية والبحرية وجرف أمواج البحر جزءا منه تقرر نقله في نهاية الشهر ذاته إلى ميناء أشدود لإصلاحه ولا تزال هنالك شكوك عديدة تثار حول النوايا الحقيقية من وراء إنشاءه رغم ان الادارة الامريكية اعلنت أن بناءه جاء ضمن سلسلة من الإجراءات العملية للتخفيف من حدة المعاناة في غزة بعدما بلغت المجاعة حدا خطيرا بفعل تعنت حكومة الاحتلال ورفضها إدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى غزة واستمرارها باستهداف المنظومة الصحية والمستشفيات والمخابز ومخازن المساعدات والمناطق الآمنة في كل مناطق القطاع.
فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة لم تبدي موقف معلن من بناء الرصيف حتى الساعة لكن موقفها بالأصل واضح ومعلن من حيث دخول أي قوة دولية إلى غزة تحت أي غطاء تعتبر قوة احتلال يجب مقاومتها الا انه يستبعاد استهداف الفصائل للرصيف وسط التأكيد الأمريكي بأن القوات العاملة على الرصيف لن تنزل إلى شاطئ غزة وسيتركز عملها داخل المياه فقط.
الأوساط الفلسطينية الرسمية والشعبية اظهرت خشيتها من أن يستخدم هذا الرصيف البحري بطوله 550 مترًا في (عمليات التهجير المنظمة) للمواطنين من غزة بواسطة البواخر والمراكب الضخمة تحت غطاء تقديم المساعدات الإنسانية سيما وان حكومة الاحتلال لم تخف اهدافها من وراء العدوان المستمر على غزة ومن ضمنها تهجير الفلسطينيين بالقوة وطواعية رغم تأكيد البيت الأبيض بأن هدف الرصيف إغاثي بحت.
عمليا من الصعب جداً بل من المستحيل أن يصدّق عاقل أنّ الحكومة الأمريكية مهتمة فعلاً بتخفيف المعاناة الإنسانية في قطاع غزة بينما هي متورطة فعليا وشريك أساسي في المجازر والعدوان وحرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الصهيوني ضدّ المدنيين في القطاع الصامد وانطلاقاً من هذا التناقض الغريب تبرز وبإلحاح شديد بعض الأسئلة المحيرة حول الدور المخفي لهذا الرصيف البحري الذي أمر الرئيس الأمريكي بايدن جيشه ببنائه على سواحل غزة ليتم استخدامه ظاهريا في إيصال المساعدات الإنسانية إلى منكوبي العدوان الصهيوني لتوفير قرابة مليوني وجبة يوميا ومع ذلك فإنّ الغرض الحقيقي من وراء إنشائه يبقى غامضاً ومريباً بل ومشبوهاً خاصة مع توفر بدائل أخرى لإدخال المساعدات برا عبر المعابر المؤدية إلى القطاع والتي يبدو استخدامها أسهل واسرع وأقل تكلفة.
المعلومات التي تسربت بشأن ( رصيف بايدن البحري المشبوه ) تفيد ان الفكرة صهيونية بالأصل والتنفيذ أمريكي في الواقع وهو ما يثير مزيد من الشكوك حوله خاصة وان الاحتلال ايد إقامته كرصيف عائم مؤقت لإدخال المساعدات الإنسانية الإغاثية إلى سكان قطاع غزة وقد تم بحث هذه المبادرة بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والاتفاق على التنسيق بينهما للتنفيذ وفي ذات الوقت اعتبر مراقبون أنّ ما يقوم به بايدن ما هو إلا محاولة تلاعب جديدة يسعى من خلالها إلى إيجاد توازن في حرب غير متكافئة في الشرق الأوسط إلى جانب الحسابات السياسية الانتخابية بالداخل حيث يخشى أن يكلّفه انحيازه الفج إلى الاحتلال فرصة البقاء في البيت الأبيض لعهدة جديدة والغريب هنا كيف يمكن لبايدن أن يقدم المساعدات لأهالي غزو وهو يدعم الاحتلال بالأسلحة الفتاكة التي تقصف المواطنين و شاحنات الغذاء وعناصر تامين المساعدات فأي تناقض نعيشه مع هذا الرجل الخرف.
إدارة بايدن وبعنجهية مطلقة رفضت منذ البداية الاعتراف بمسؤولية الاحتلال عن الأزمة الحالية في عزة وأنها تستخدم التجويع كسلاح حرب مثلما لاحظت ذلك منظمة هيومن رايتس ووتش وخبراء آخرون والامر الاهم هنا نه لم يطلب أحد بناء رصيف بحري لا من الجانب الفلسطيني ولا من المجتمع الإنساني الدولي والكل يسأل باستغراب هل هذا المشروع غير المجدي والباهظ وربما الخطير ضروري من الأساس.
إنشاء الرصيف بدأ بمبادرة طرحت قبل 10 أعوام لكنها لم تر النور بسبب الرفض الصهيوني في حينه وقد تم إعادة طرحها بالتزامن مع العدوان الصهيوني على قطاع غزة من قبل وزير الخارجية يسرائيل كاتس وبعدها تم التوصل إلى اتفاق مع امريكا بمباركة كل من قبرص واليونان وقطر والإمارات وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبريطانيا والعستعجب ان نتنياهو يزعم بأنه هو صاحب فكرة اقامة الرصيف حينما عرض خطوطه الرئيسية على الرئيس القبرصي خريستودوليديس نهاية أكتوبر 2023 لأنه يرى ان انشاء الرصيف يمكن أن يسهل إخراج الفلسطينيين من غزة وسوف كما انه سيعزز السيطرة والقدرات الاسرائيلية على استمرار القتال ويسهم في تقويض سلطة حماس.
الادارة الامريكية وفي ذات السياق سارعت الى التعاقد مع شركة خاصة تدعى “ فوغبو ” يديرها مسؤولون سابقون في الجيش والمخابرات الأمريكية لتنظيم نقل المساعدات لدى وصولها إلى ساحل غزة ثم يتولى فلسطينيون محليون غير مسلحين توزيعها بشكل آمن ودون عوائق بحسب زعمهم رغم ان غزة تحتاج إلى أكثر من 500 شاحنة مساعدات يوميا إلا أن كمية المساعدات الإغاثية التي دخلت عبر الرصيف البحري تقل عن 20 شاحنة يومياً في المتوسط، وهو عدد محدود للغاية ولن يلبي الحد الأدنى من احتياجات سكان القطاع خاصة مع تصاعد الظروف القاسية.
الخطة المرسومة للرصيف البحري ترمي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف من بينها الإيحاء للرأي العام الداخلي في أمريكا خصوصا اعضاء التيار التقدمي اليساري في الحزب الديمقراطي أنّ إدارة بايدن تسعى لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة وبالتالي تدحض الاتهامات بأنها شريك في العدوان رغم أنّ البيت الأبيض لا ينفي انحيازه العلني للاحتلال الصهيوني الفاشي.
الثابت والاكيد انه رغم الجانب الإنساني الذي أعلنه بايدن بإيصال المساعدات الإغاثية لقطاع غزة وإنشاء مستشفيات عائمة لعلاج جرحى الحرب فوق الرصيف فإنّ هناك جانبا آخر لاستعماله يرتبط ( بتشجيع هجرة الفلسطينيين طوعا ) إلى أوروبا بعد إلغاء أدور معبر رفح البري على الحدود مع مصر لأنّ سلطة الاحتلال لا تثق بمن يديره حيث تعتبره المدخل الرئيسي لأسلحة حركة حماس ولهذا بعد الحصار الذي فرضه الاحتلال على غزة منذ سنة 2007 أغلقت جميع المعابر ما عدا معبري رفح وبيت حانون اللذين خصصا لتنقل الأفراد ومعبر كرم أبو سالم الذي خصص لنقل البضائع امام كل ذلك ومرة اخرى هل هذه المنشأة عي رصيف بحري فعلا أم هي قاعدة أمريكية متقدمة وموطئ قدم على شاطئ غزة وتحديداً قبالة حقل الغاز ” مارين” الغير مستخدم حتى الان والمكتشف نهاية تسعينات القرن الماضي وهل ستتقاسم موارده أمريكا وإسرائيل بالاتفاق مع أيّ سلطة عميلة قد تنصب في غزة مستقبلا.
المحاولات الجادة لسبر اغوار هذا الرصيف تستدعي الخوض في بعض التحليلات الاساسية اهمها ألم يكن من الأولى لأمريكا الضغط على الاحتلال لإيقاف عدوانه واجباره على الانصياع لقرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار وإذا كانت أمريكا تريد حقا إيصال المساعدات إلى سكان قطاع غزة فلماذا لا تستخدم معبر رفح لذلك لا يزال من غير الواضح إلى متى سيظلّ هذا الميناء مؤقت وما هو مصيره بعد سنوات خاصة واننا تعوّدنا من أمريكا على اطلاق المشاريع الفاشلة فمثلاً بعدما شنّت حرب طويلة الامد على أفغانستان لطرد حركة طالبان بعد عشرين سنة أعادتها للسلطة بمسرحية الهزيمة والانتصار.
في الواقع العملي يصعب فصل هذه المؤامرة عن السياسة العامة التي انتهجتها إدارة بايدن ونتنياهو منذ اللحظة الأولى لوقوع طوفان الأقصى حيث تقوم الخطة الشيطانية الأمريكية – الاسرائيلية على ترحيل 2 مليون فلسطيني عبر شواطئ غزّة إلى أي مكان آخر فلا تهم الوجهة لكن المهم أمغادرة القطاع بعدما منحت أمريكا إسرائيل السقف الزمني والعسكري والقدرات الإجرامية للتمادي أكثر في حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها بحق السكان العزل منذ ما يزيد على ثمانية أشهر لا زال ما وراء اسرار الرصيف العائم غارقة في اعماق بحر غزة.
علي ضوء ما ذكرنا من شكوك متواصلة حول ماهية الأهداف الحقيقية لإنشاء هذا الرصيف يمكننا الإشارة ايضا إلي بعض الأهداف الخفية الاخرى التي تقف خلف بناءه نذكر منها على سبيل المثال محاولة إطباق الحصار البحري على قطاع غزة لمنع أي عمليات تهريب للسلاح إلى حماس فطالما اتهمت إسرائيل إيران بتهريب أسلحة لقطاع غزة عبر البحر المتوسط ومن خلال طرق تهريب معقدة باستخدام قوارب صيد صغيرة أو بتوريد بضائع مدنية يمكن إعادة استخدامه عسكريا وكذلك لمنع وصول المساعدات انسانية إلي حماس لأن دخولها من معبر رفح سيجعلها بالضرورة تحت رقابة الحركة وبالتالي سيمكنها من اعادة التموين والتخزين لأجهزتها وعناصرها.
ولا يفوتنا ان نبين ايضا بان واشنطن نسعى بحرص شديد للاستفادة من التمويل الخليجي لمشروع الميناء للبدء في رسم معالم اليوم التالي للحرب من خلال بناء قواعد تعاون ( إسرائيلي – أمريكي – عربي ) والدفع مرة أخري نحو مشاريع تطبيع جديدة اما بالنسبة لإسرائيل فإن هذا الميناء يعتبر جزء من مساعيها لإيجاد طرق بحرية بديلة لنقل البضائع عوصا عن البحر الأحمر الذي تم قطعه من قبل الحوثيين في اليمن كما يشكل بناء الرصيف علي ساحل غزة تهديدًا جوهريًا لدور مصر الاقليمي عمومًا وتجاه الملف الفلسطيني خصوصًا حيث تشترك مصر حدوديًا مع قطاع غزة معقل المقاومة الفلسطينية والخنجر المسموم في ظهر الاحتلال.
اخيرا وبقدرة الله تعالى اظهرت امواج غزة الثائرة غضبها العنيف وتضامنها الفعلي ووقوفها الكامل إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة رصيف الغدر والمؤامرة والنذالة الذي يعتبر بمثابة ورقة التوت للتغطية على التواطؤ الأمريكي في العدوان و الإبادة الجماعية وتدمير الأونروا مع علمهم المسبق بأن توصيل المساعدات عبر الجو أو البحر ليس بديلًا للوفاء بالحجم الهائل لاحتياجات سكان غزة حيث يبقى المطلب الأساسي هو الإسراع في فتح جميع المعابر البرية وإدخال كل الاحتياجات اللازمة لإعادة الحياة الطبيعية لأبناء القطاع المحاصر.
*كاتب فلسطيني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …