سفيان حشيفة*
قد يبدو هذا السؤال غريباً بالنظر إلى ما حصل لعائلة القذافي من تنكيل وتحجيم وتهجير بعد سقوط نظام العقيد معمر الجماهيري في ليبيا سنة 2011م، وتعرُّض أبنائه لحملات شيطنة شرسة على مدار عقدٍ من الزمان، ومحاولات داخلية وأجنبية حثيثة لإحالة نجله سيف الإسلام إلى محكمة العدل الدولية للمحاكمة الجنائية حين كان أسيراً لدى أحد الميلشيات المسلّحة القبليّة المناوئة لحكم والده.
في الحقيقة، وقائع الأحداث المستجدّة في ليبيا، وتشعّب تفاصيلها وتداخلاتها السياسية والأمنية والقبليّة تنبِئُ بحصول ما لا يُمكن توقُّعه في خضمّ الانتقال السلطوي العسير الذي تشهده الدولة المنقسمة أصلاً على نفسها إلى إقليمين وحكومتين متشاحنتين، وقد نرى في قادم الأشهر أو السنوات القليلة منعطفاتٍ أكثر دراماتيكية تشي بعودة النظام السابق أو أحد أفراده بواجهة جديدة ومتجددة بدعم شعبي وقبلي كبيرين.
وما يعلمه القاصي والدّاني أنّ تعطيل الانتخابات الرئاسية في ليبيا شتاء العام 2021م، كان له عدّة أوجه، أفشلت تجسيد هذا الاستحقاق التاريخي على أرض الواقع، على غرار تضارب المصالح الشخصية لبعض الأطراف الداخلية المتسببة أصلاً في نشوب الحرب الأهلية بين حكومتي بنغازي وطرابلس، وتعقيدات وتشعّبات الوضعية القانونية والتشريعية، وتدخُّلات القوى الخارجية لا سيما الغربية منها، فضلاً عن وجود الميلشيات المسلحة والمرتزقة الأجانب على نطاق واسع فوق الأراضي الليبية، لكن البعض وهم قلّة من أصحاب النظر الثاقب أوعزوا الأسباب الحقيقية إلى عوامل أخرى!.
وكما هو معلوم فقد ترشّح نجل العقيد معمر القذافي الدكتور “سيف الإسلام” للانتخابات السابقة المُؤجّلة، مدفوعاً بحاضنة شعبية ليبيّة قوية أثارت قلق الحكومتين المتفقتين على شيء واحد هو عدم السّماح للنظام السابق أو أحد عناصره بالعودة إلى الواجهة، لا سيما مع تسلّل الشّك لدى كثيرين بإمكانية عودة القذافي إلى الحكم من بوابة ديمقراطية الانتخابات بعد أن أسقطت نظامه صواريخ وطائرات حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
في الواقع، لم يكن الانزعاج من فرضية عودة أحد أبناء القذافي للحكم داخلياً فقط، بل كانت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية أكثر توجّساً من نتائج الانتخابات المحتملة، فقد لاحظت أجهزة استخباراتها آنذاك أن ما يحدث في ليبيا نقطة تحوُّل ستنتهي بعودة نجل العقيد معمر إلى حكم ليبيا، نظير التفاف القبائل الشعبية الكبرى حوله، وهو ما لن يسمح به حكام البيت الأبيض ولو كان عبر ديمقراطية صناديق الاقتراع.
وعلى هذا الأساس، عملت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك المرحلة، حسب متابعين، على تأجيج الصراعات والخلافات الداخلية في الوسط الليبي، وقامت بعرقلة عمل المبعوث الأممي الخاص السابق إلى ليبيا، السيد يان كوبيش، منعاً لأي إجراءٍ لتلك الانتخابات ولو بإلغائها نهائياً إلى حين تهيُّؤ الظروف المناسبة لها من دون ترشح سيف الإسلام القذافي.
ورغم مرور سنوات على تأجيل أو إلغاء تلك الانتخابات الرئاسية، يُلاحظ المُراقبون للشأن الليبي اليوم، أن شعبية نجل العقيد معمر القذافي توسّعت وازدادت أكثر مما كانت عليه عام 2021م، بل حظي سيف الإسلام، مؤخراً، بدعم حتى من القبائل والميلشيات المسلحة النافذة لدى السلطتين الحاليتين في الغرب والشرق، وبعض الفواعل الإقليمية المؤثرة في السياسات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي ظلّ هذه الظروف، فاجأت القوى العسكرية والأمنية والاجتماعية في مدينة الزنتان غربي ليبيا، في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2024م، الأوساط الليبية المحلية ببيان أعلنت فيه دعمها لترشُّح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية القادمة، في خطوة أحدثت جدلاً واسعاً داخل الطبقة السياسية المُنهكة والمُقزّمة بسبب تفاقم الصّراعات.
وذكرت قبيلة الزنتان وهي أحد أكبر المُمثِّليات الشّعبية العريقة في ليبيا، خلال عرض عسكري مهيب، أن سيف الإسلام يتمتّع بدعم شعبي وتأييد كبيرين، ويمتلك مؤهلاتٍ قيادية، وخبرة سياسية واسعة، والتزام وطني صادق، مؤكدة أنها لن تسمح لكل المحاولات المشبوهة من بعض الأطراف المحلية والدولية أن تحول بينه وبين حقّه كمواطن ليبي في التّرشّح للانتخابات وتقدّم الصّفوف لخدمة بلده.
ولم يتوقف دعم سيف الإسلام على قبيلة الزنتان فقط، بل أعلنت قبيلة الصيعان ذات النفوذ والامتداد الواسعين في ليبيا أيضاً دعمها الكامل لنجل القذافي، في التاسع عشر من نيسان/أبريل 2024م، داعية في بيان مرئي، جموع الشعب الليبي للوقوف صفاً واحداً ضد التدخل الخارجي المهين، والخروج إلى الساحات للمطالبة بسرعة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية دون إقصاءٍ لأحدٍ.
وقد أعقب هذا الأمر، ظهور ابنة العقيد الليبي الدكتورة عائشة القذافي، لأول مرّة بشكلٍ علني منذ اندلاع الأزمة سنة 2011م، في معرض فني تشكيلي من إعدادها في سلطنة عُمان، تحت عنوان “ريشة النبض”، في الفترة بين 7 و12 ايار/مايو 2024م، تناولت من خلال لوحاته صور الفقد والحرب، حيث تزامن ذلك مع الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تقوده القبائل الكبرى في ليبيا من أجل ترشيح سيف الإسلام إلى الانتخابات الرئاسية المُقبلة.
وبما أن إجراء الانتخابات الرئاسية في ليبيا هو الوسيلة السلمية الوحيدة للخروج بالبلاد من حربها الأهلية والاحتقان السياسي الحاد الرّاهن، على الولايات المتحدة الأمريكية المُتسبِّب الرئيسي في الأزمة منذ بدايتها سنة 2011م، ترك ازدواجية معاييرها المعتادة والتّخلّي عن حِقدها القديم الدفين على القذافي الأب وعائلته، وترك الشّعب الليبي بسلام يُقرِّر من يحكُمه ويُمثِّله بشكلٍ ديمقراطي ولو كان الخيار الدكتور سيف الإسلام بن معمر.
*صحفي وكاتب سياسي جزائري
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …