أحمد عيسى*
يجادل كثير من أصحاب الرأي في إسرائيل (عسكريون وسياسيون وأكاديميون) أن عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي الغرائزي عليها، قد عمقا قناعة نسبة عالية من مواطني الدولة اليهود في أن سياسات الإئتلاف الحاكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو نحو الفلسطينيين، تُشكل التهديد الوجودي الأبرز للدولة ووجودها في مصفوفة التهديدات الإستراتيجية التي تواجه الأمن القومي الإسرائيلي منذ بداية الألفية.
يسعى هذا المقال الى فحص إذا ما كانت هذه السياسة حقاً تشكل تهديدا وجوديا للدولة، واذا ما كان بمقدور قيادة إسرائيل الحالية إخراج إسرائيل من هذا المأزق.
وفي سعيه هذا، سيطبق المقال منهج تحليلي يقوم على مقارنة مفهوم الحكومة الحالية مع المعنى الإجرائي لمفهوم الأمن القومي الذي يشار اليه في اسرائيل بمعادلة الأمن القومي، والذي درجت إسرائيل على توظيفه في تأطير أولوياتها واختيار وسائلها وتحديد ما يتوجب عليها عمله وما يحظر عليها القيام به لتحقيق غاياتها.
فما هو المفهوم المعروف للأمن القومي الإسرائيلي أو (مفهوم بن غوريون)؟ وما هومفهوم الحكومة الحالية أو مفهوم نتنياهو؟ وهل ثمة اختلافات بين المفهومين؟ وهل هي إختلافات مفاهيمية أم إجرائية تتعلق بالتطبيقات العملانية للمفهوم، خاصة ما يتعلق بكفاءة النخبة؟ وما هو دورعملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها في كشف وتعميق المأزق الناتج عن الإختلاف بين المفهومين؟ وهل ثمة إحتمالات لنجاح مفهوم نتنياهوفي صناعة وتثبيت الوجود؟ وسيحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال جزئين، يتناول الجزء الأول الأسئلة الثلاثة الأولى، فيما يجيب الجزء الثاني عن باقي الأسئلة.
أما حول المفهوم المعروف للأمن القومي الإسرائيلي، فيحسب لرئيس الوزراء الأول بن غوريون أنه وضع في مطلع خمسينيات القرن الماضي الركائز الثلاث التي يقوم عليها المفهوم (الردع والإنذار المبكر والحسم السريع)، وذلك لحماية وجود الدولة وتثبيته في المنطقة، ويحسب بالمقابل للعقيد ايجال الون أحد معاوني بن غوريون بأنه قدم بعد مرور ثلاثين سنة تقريبا على مساهمة بن غوريون، مفهوما إجرائي للأمن القومي الإسرائيلي، طوره لاحقا في معادلة أطلق عليها اسم معادلة الأمن القومي لإسرائيل.
وكان آلون قد عرف الأمن القومي الإسرائيلي تعريفاً يشار اليه في الأوساط الأكاديمية بالمعنى الإجرائي للأمن القومي، الذي يرى أن الأمن القومي للدولة هو “محصلة إتصالات الدولة المتبادلة مع بيئتها الإقليمية والدولية، بحيث تعكس هذه المحصلة: قوة الدولة، وإستعدادها، ووسيلتها، وقدراتها التنفيذية للدفاع عن مصالحها الحيوية، وتحقيق غاياتها القومية”، ثم رأى أن المتغيرات المتضمنة في التعريف تصلح أن تُصاغ في معادلة تربط بين طرفين كما هي المعادلة الرياضية، تقف القدرات القومية في الطرف الأول، والغايات القومية في الطرف الآخر، وتربط بينهما الوسيلة.
وفي سياق شرحه للمعادلة أضاف الون أنه إذا كانت إسرائيل تريد تأمين سلامتها وسيادتها وكرامتها وازدهارها ومواصلة تحقيق أهداف الصهيونية، عليها المحافظة على تطوير قدراتها، واختيار الوسائل الملائمة.
من جهته، أسس الإئتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل مفهومه للأمن القومي على قاعدة فكرية مفادها أنه “من أجل ضمان أمن إسرائيل يتوجب على إسرائيل أن تكون أقوى من أعدائها عسكريا”، كما جاء في وثيقة وسمها واضعوها باسم “المبادرة السياسية الجديدة” صدرت في شهر مارس/آذار الماضي عن معهد “متفيم -مسارات” وهو معهد متخصص بالسياسات الخارجية الإقليمية وصندوق بيرل كتسنلسون، حيث شارك في إعداد الوثيقة طاقم من الخبراء الإسرائيليين في مجالات السياسة والأمن القومي والإقتصاد، وحررها الدكتور العقيد احتياط عومر تسنعاني الذي شغل سابقا منصب مستشار في ديوان رئيس الوزراء لشؤون السياسات والأمن القومي.
ورغم أن وثيقة (معهد متفيم) لم تقدم شرحا موسعا لمفهوم الأمن القومي الذي تتبناه الحكومة الحالية، إلا أنها اعتبرت أن القوة العسكرية ومراكمتها وتوظيفها، هي المتغير الأساسي الذي يقوم عليه المفهوم.
في الواقع يتفق ما قدمته وثيقة ميتفيم حول الأساس الذي يقوم عليه الأمن القومي للحكومة الحالية مع رؤية نتنياهو للأمن القومي كما عبر عنها في وثيقة بدأ في صياغتها العام 2017، وسُربت في العام 2019، واطلق عليها “وثيقة نتنياهو للأمن القومي”، وأعادت نشرها صحيفة “هآرتس” العام 2023 تحت عنوان “بالإمكان إنهاء المعركة بدون حسم قاطع” حيث جمع نتنياهو في مقاربته للأمن القومي بين المنظار الواقعي في تفسير المسألة الأمنية الذي يعتبر الدولة هي مرجعية التحليل الأساسية، وأن القوة العسكرية هي أساس قيام الدولة بواجباتها في حفظ الأمن، وبين تنظير قدمته مدرسة كوبنهاجن التي استمدت أصولها التنظيرية في العلاقات الدولية من مساهمات (باري بوزان) الذي طور نموذج الأبعاد والمستويات في تحليل المسألة الأمنية.
ويكفي هذا للوقوف على محاور الإختلاف بين مفهوم الحكومة الحالية للأمن القومي، وبين المفهوم الذي قدمه بن غوريون وطوره لاحقا ايجال آلون والذي لا زال فاعلا في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وترى هذه المقالة أن الإختلاف ينحصر في مسألتين، تتعلق الأولى في مكانة القوة العسكرية في المفهوم، فبينما يقوم مفهوم الحكومة الحالية للأمن القومي على القوة العسكرية والتفوق العسكري على الأعداء، ترى معادلة الأمن القومي لإسرائيل أن القوة العسكرية ما هي إلا أحد مكونات القدرة القومية للدولة التي هي محصلة الجمع بين القوة العسكرية والجاهزية القومية وهذه الأخيرة تشمل الى جانب متغيرات أخرى (المناعة القومية والإجماع على الغاية القومية وقدرة المجتمع على الصمود ودعم المجهود الحربي).
ويخص الإختلاف الثاني كفاءة النخبة سواء على صعيد متخذي القرار في الدولة أو على صعيد دور أجهزة التنبؤ (الإستخبارات)، حيث تحتل النخبة دورا رئيسي في مكونات معادلة الأمن القومي (القدرة والوسيلة والغاية) فهي التي تحدد الغاية و الوسيلة وهي الجهة التي تقف على حقيقة القدرة، وتسعى لترميم نقاط ضعفها وتعزيز نقاط قوتها، كما أنها الجهة التي عليها متابعة معادلات الأمن القومي للأطراف الأخرى سواء المعادية أو الصديقة والحليفة واتجاهات سيرها التاريخي، إذا ما كانت تسير في نفس مسار معادلة الأمن القومي للدولة، أو في اتجاه مضاد. في المقابل يرى كثيرمن الخبراء في الأمن القومي الإسرائيلي بما في ذلك المقربون من نتنياهو، أن أجهزة الاستخبارات غير كفؤة وقد ثبت فشلها قبل الحرب الجارية وخلالها.
وفي هذا الشأن يجادل يعقوب عميدرور في تقدير موقف نشره “معهد القدس للإستراتيجية والأمن” يوم الثلاثاء 21/5/2024، بالقول “في السابع من اكتوبر كانا عاملا المفاجئة والفشل أبرز السمات الرئيسية لإسرائيل على المستويات السياسية والإستخبارية، والعسكرية، سواء على صعيد الدفاع أو على صعيد الرد الفوري، إذ كان هذا الرد غريزيا واتسم بالفوضى وابتعد عن التفكير المنظم، أي انه كان ردا بدون تخطيط منظم”.
وختم عميدرور تقديره بالقول “في ضربة واحدة انهار كل النظام الدفاعي لإسرائيل في الجنوب، وكان نجاح حماس في ذلك مذهلاً”، ويعتبر عميدرور من المقربين فكريا وسياسيا من رئيس الوزراء نتنياهو، وشغل سابقا رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ويعمل الآن باحثا في معهد القدس للإستراتيجية والأمن.
ما تقدم يظهر أن الحكومة الحالية قد إبتعدت كثيراً في مفهومها للأمن القومي عن مفهوم بن غوريون وآلون، إذ قام مفهوم الحكومة الحالية على القوة العسكرية على حساب الجاهزية القومية، بينما يهتم مفهوم بن غوريون وآلون على القدرة القومية التي تجمع بين القوة العسكرية والجاهزية، وهذه الأخيرة غير متوفرة في حالة إسرائيل اليوم كما أظهرت استطلاعات الرأي التي أجراها معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS) ونشرها في تقرير خاص يوم الأحد الموافق 19/5/2024.
وفيما ركزت معادلة آلون على مكانة وكفاءة النخبة في معادلة الأمن القومي، أثبتت عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها أن النخبة التي تقود إسرائيل اليوم هي نخبة فاشلة وغير كفؤة للقيادة سواء في الفترة التي سبقت السابع من اكتوبر أو بعدها، الأمر الذي جعل مفهوم الحكومة للأمن القومي والسياسات المستمدة منه بمثابة تهديد وجودي للدولة كما عبرت عنه وثيقة ميتفيم.
*كاتب فلسطيني وباحث متخصص في دراسات الأمن القومي الإسرائيلي والفلسطيني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …