كمال ميرزا*
من المدهش يقين بعض الأنظمة العربية بهزيمة المقاومة، ونفاذ التصوّرات والمخطّطات الأمريكية لإعادة ترتيب المنطقة، ودمج الكيان الصهيوني في محيطه، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيّاً، والقضاء على أي مقوّمات وعوامل للصمود والنهوض والممانعة العربية [والإسلامية]!
هذا اليقين يُترجَم عمليّاً من خلال إصرار هذه الأنظمة على تنفيذ سياسات وبرامج وإجراءات تمسّ مختلف أركان الولاية العامّة والأمن والإدارة و”العقد الاجتماعي” داخل دولها، بما يعيد تعريف الدولة والمجتمع، ويهيّئهما ليتناسبا ويتماشيا مع التصوّرات والمخطّطات الأمريكية المزمعة.
والنسبة الأكبر من الناس للأسف، بفعل ضيق الأفق، وعقود من إفساد الوعي والضمير، وتكريس الانقسام والعنصريّة والأنانيّة والتنافس المَرَضي حدّ التناحر، والسياسات والأساليب التربويّة الإعلاميّة والدعائيّة المُغرِضة والرخيصة.. يتعاطون مع كل جزئيّة بجزئيّتها، وفي حدود ما تمسّ مصلحتهم الماديّة الشخصيّة ورفاهم الفرديّ الآنيّ المباشر، ويتفاعلون معها بشكل منفصل، ويُغفلون رؤية الصورة الأكبر والسياق الأعم!
خذ خطوة أو اثنتين إلى الوراء، وانظر إلى المشهد بكليّته، واجمع الشذرات والتفاصيل مع بعضها البعض، وعندها سيتضح لك المسار الفعلي للأحداث ومآلاته والغايات والمرامي والنوايا الخبيثة الكامنة وراءه!
المشكلة ليست في تشريع تمّ سنّه هنا أو نظام تمّ إقراره هناك، أو في إجراء تمّ اتخاذه ويبدو للوهلة الأولى محايداً ومتخصّصاً وتكنوقراطيّاً..
انظر للصورة الأعمّ، وستجدّ أن كلّ ما تُنفّذه الأنظمة العربية منذ عشرين سنة باسم “الضرورة”، أو باسم أزمات مُفتعَلة أو تمّ تهويلها، أو تحت مسمّيات برّاقة مثل التحديث والتطوير والتمكين والريادة والتحوّل والأتمتة والرقمنة.. كلّ هذا يصبّ في خانة المزيد من السلب والنهب والهيمنة والتبعيّة، تبعيّة “الأطراف” إلى “المركّز”، وتبعيّة “الشرقيّ” الهمجيّ والمتخلّف إلى “الغربيّ” المتحضّر والمتقدّم.
والمؤسف أنّ كلّ هذا يجري على يد “كمبرادور” رَهَنَ مصالحه بخدمة مصالح الآخر، و”نُخَب متغرّبة” ترى ذاتها وشرعيّتها في مرآة رضا وقبول وإقرار الآخر، ومرجعيّات أمنيّة أفسد التنسيقُ المنبهر مع الآخر منطقها وتفكيرها وجعلها تحصر مفهومها للأمن بمعناه البوليسي المباشر.. حتى لو أتى ذلك كلّه على حساب المجتمع والتاريخ والذات الوطنيّة والقوميّة والهويّة الحضاريّة والعقيدة والإيمان والأمن الوجودي للأوطان وكيانات الدول!
هذا الحال ينطبق عليه وصف شاعر البصيرة اليمني الراحل عبد الله البردوني: “الغزو من الداخل”!
وعندما يكون الغزو من الداخل فإنّ التحرير يبدأ من الداخل أيضاً، داخل الفرد وداخل المجتمع.. ثم البقيّة تأتي، وهذا درس آخر من دروس “طوفان الأقصى” و”المقاومة” وسرّهما الباتع!
“طوفان الأقصى” و”المقاومة” حرّرا تفكير الإنسان وضميره، وعقل المجتمع ووجدانه الجَمعيّين.. وعندها أصبح تحرير كلّ شيء آخر وتحرير الأوطان برمّتها فكرةً وجيهةً، وبديهيّةً منطقيّةً، وغايةً سهلةً وممكنةَ المنال!
هذا سبب إضافي، وربما السبب الرئيسي، لكره الأنظمة لطوفان الأقصى والمقاومة!
ملاحظة (1): قصيدة “الغزو من الداخل” للشاعر “عبد الله البردوني” قد تكون أهم من أي قصيدة وطنيّة أخرى قرأتَها في حياتكَ أو جعلتَ أبناءك يقرأونها، أهم حتى من قصيدة “لا تصالح” لـ “أمل دنقل”!
ملاحظة (2): تعبير “سرّه الباتع” مُستلهمة من قصة للأديب المصري الراحل “يوسف إدريس” تحمل نفس الاسم، والجميع خليقون بقراءة هذه القصة وحثّ أبنائهم على قراءتها، وهي مثل سائر نتاج “يوسف إدريس” تستحق أن تكون مقرّراً إلزاميّاً للطلاب بمختلف مستوياتهم.
*كاتب اردني
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …