بقلم / محمد الصالحي
لما يقرب أو يزيد عن قرن من الزمان، عانى الوطن العربي من تدخلات غربية متكررة في شؤونه الداخلية، تلك التدخلات التي لم تكن مدفوعة بمصالح الشعوب العربية، بل بخطط استراتيجية تخدم الأجندات الأوروبية والغربية بشكل عام. هذه التدخلات تسببت في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من الدول العربية، وتفاقمت تداعياتها لتشمل جوانب شتى من الحياة العربية.
فمنذ بدايات القرن العشرين، استغل الغرب الفكر القومي العربي ضد العثمانيين، وتم دعمه وتوجيهه بطريقة تخدم المخططات الأوروبية، وذلك بهدف إضعاف الإمبراطورية العثمانية والسيطرة على المناطق التي كانت تحت نفوذها. هذا الدعم لم يكن فقط من أجل تحقيق الاستقلال العربي، بل كان جزءاً من استراتيجية أكبر تهدف إلى تقسيم الوطن العربي إلى دويلات صغيرة وضعيفة، يسهل التحكم فيها والسيطرة على ثرواتها.
ولعل أكبر مثال على هذه السياسة الاستعمارية كان دعم الغرب لقيام دولة الكيان الإسرائيلي. فقد قدمت القوى الغربية المال والسلاح بشكل مباشر لدعم إقامة هذا الكيان في قلب الوطن العربي، مما خلق بؤرة صراع مستمرة إلى يومنا هذا. هذا الدعم كان بمثابة بداية لمرحلة جديدة من الانقسام العربي، حيث انقسم الوطن العربي إلى تيارين رئيسيين: التيار التقدمي الموالي للاتحاد السوفيتي، والتيار المحافظ الموالي للغرب. هذا الانقسام أدى إلى ظهور ما يسمى بـ”الحرب الباردة العربية”، التي استنزفت مقدرات الشعوب العربية وزادت من تعقيد الأوضاع السياسية في المنطقة.
ومنذ السبعينات، أرغمت الدول العربية على القبول بإسرائيل كأمر واقع، وتم دفعها إلى توقيع اتفاقيات سلام معها، رغم رفض الشعوب العربية لهذه الخطوات. فهذا التطبيع السياسي لم يكن سوى مقدمة لزج العرب في حروب الوكالة، مثل حرب أفغانستان والحرب العراقية الإيرانية، حيث تم استغلال الأطراف العربية لخدمة مصالح القوى الكبرى. كما تم تصنيع ودعم الجماعات الإرهابية، بهدف تحويل العداء العربي عن إسرائيل وتوجيهه نحو أطراف أخرى.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين فرضت القوى الغربية القيم الليبرالية على الشعوب العربية من خلال تغيير المناهج الدراسية ومحاولة تغيير الهوية الثقافية والدينية للعرب. وقد تم ذلك بالتوازي مع إقامة القواعد العسكرية ونشر القوات الأجنبية في المنطقة العربية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، مما جعل السيادة الوطنية في كثير من الدول العربية مجرد شعارات خالية من المضمون.
وأدى هذا إلى إذكاء الفتن الطائفية والمذهبية، وتأجيج الصراعات العربية-العربية، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني في المنطقة. بل وصل الأمر إلى جعل الدول العربية تقوم بحماية إسرائيل بشكل مباشر وغير مباشر، من خلال استهداف حركات المقاومة في البلدان العربية، سواءً بالحرب الدعائية أو العسكرية، في وقت الذي تتراجع فيه أولويات القضية الفلسطينية لدى الأنظمة العربية.
هذا المشهد المعقد قد جعل من المنطقة العربية ساحة لصراعات متعددة الأبعاد، حيث تتداخل فيها المصالح الدولية مع النزاعات الداخلية، مما يؤدي إلى تآكل السيادة الوطنية وإضعاف الاستقرار الداخلي.
إن هذا التعقيد في المشهد السياسي العربي لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات لعقود من السياسات الخارجية الغربية التي سعت إلى تفكيك الوحدة العربية وضمان استمرار الهيمنة على موارد المنطقة وموقعها الجغرافي الاستراتيجي. وقد أفرزت هذه التدخلات واقعاً متشرذماً، حيث أصبحت الدول العربية عاجزة عن تشكيل جبهة موحدة قادرة على التصدي للتحديات التي تواجهها.
فإلى جانب التدخلات السياسية والعسكرية، شهدت المنطقة العربية تدخلاً اقتصادياً ممنهجاً، يهدف إلى ربط اقتصاداتها بالمنظومة الرأسمالية العالمية، مع إبقائها في موقع التابع الذي يصدّر المواد الخام ويستورد المنتجات الصناعية. وقد ساهمت برامج الخصخصة والانفتاح الاقتصادي التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في إضعاف القطاعات الحيوية في العديد من الدول العربية، مما أدى إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
هذا الوضع الاقتصادي الهش جعل الدول العربية عرضة للابتزاز الاقتصادي والسياسي، حيث باتت تعتمد بشكل كبير على المساعدات والقروض الخارجية، والتي غالباً ما تكون مشروطة بسياسات تقشفية تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية. هذه التبعية الاقتصادية حدّت من قدرة الدول العربية على تبني سياسات اقتصادية مستقلة تخدم مصالح شعوبها.
ولم تقتصر التدخلات الغربية على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط، بل امتدت إلى محاولة التأثير على الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات العربية. من خلال تمويل مشاريع تهدف إلى نشر قيم ليبرالية غريبة عن النسيج الاجتماعي العربي، سعى الغرب إلى زعزعة الثوابت الثقافية والدينية، مما أدى إلى بروز حركات اجتماعية تفتقر إلى الانتماء الحقيقي لهويتها الوطنية.
هذه المحاولات لفرض نموذج ثقافي غربي على المجتمعات العربية واجهت ردود فعل متباينة، حيث ظهرت تيارات مقاومة تسعى إلى الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية. ومع ذلك، فإن الانقسامات الداخلية بين القوى التقليدية والحديثة، والضغوط الخارجية المستمرة، جعلت من الصعب تحقيق توافق اجتماعي حول الهوية الثقافية الجامعة.
في مواجهة هذه التحديات الكبرى، بات من الضروري أن يعيد العالم العربي النظر في استراتيجياته السياسية والاقتصادية والثقافية. وتحتاج الدول العربية إلى تعزيز التعاون الإقليمي بعيداً عن الاستقطابات الدولية، وإلى بناء منظومة اقتصادية تكاملية تقلل من الاعتماد على الخارج.
فعلى المستوى الثقافي، يجب أن تكون هناك جهود مشتركة لحماية وتعزيز الهوية العربية والإسلامية، من خلال دعم الفنون والآداب والتعليم الذي يعكس قيم المجتمع العربي. كما يتعين على الحكومات العربية أن تستثمر في بناء مؤسسات إعلامية قوية ومستقلة، قادرة على تقديم صورة متوازنة وموضوعية عن قضايا المنطقة.
وينبغي على الدول العربية أن تستعيد دورها الريادي في الدفاع عن القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية العرب المركزية، والعمل على إعادة توجيه الجهود نحو مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بدلاً من الانغماس في صراعات داخلية تستنزف الطاقات والموارد.
إن التدخلات الغربية في الوطن العربي ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة لسياسات وأوضاع يمكن تغييرها من خلال إرادة سياسية حقيقية وشعور جمعي بأهمية الاستقلال والكرامة الوطنية. قد تكون التحديات كبيرة، لكن الأمل في المستقبل يكمن في قدرة الشعوب العربية على التعلم من دروس الماضي، والعمل بجدية على بناء مستقبل أفضل لأجيالها القادمة.
فالطريق نحو الاستقلال الحقيقي يبدأ بتعزيز الوحدة الداخلية، وتحصين المجتمعات ضد الفتن الطائفية والمذهبية، وتحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي بين الشعوب العربية. من خلال هذا النهج الشامل، يمكن للوطن العربي أن يستعيد مكانته على الساحة الدولية، كقوة فاعلة ومؤثرة، قادرة على حماية مصالحها والدفاع عن حقوق شعوبها في وجه التدخلات الخارجية.