د. معن علي المقابلة*
أثار الفيلم الهندي حياة الماعز الذي يتحدث عن نظام الكفيل في المملكة العربية السعودية جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث اعتبره الكثيرون وخاصة السعوديين إساءة للمملكة وقيمها العربية والإسلاميّة، واستهداف لتوجهات المملكة الجديدة في تحديث الدولة التي تهدف إلى تغيير صورة المملكة التي انطبعت في الأذهان من دولة دينية متشددة في تطبيق احكام الشريعة الإسلامية منطلقة من فكر محمد بن عبد الوهاب فيما يعرف (بالوهابية) التي تعتمد على فكر ابن تيمية الذي يعده البعض من اكثر الفقهاء الإسلاميين تشدداً في المسائل الدينية بحيث يعتبر خير من يمثل المذهب الحنبلي في تشدده.
عُرض الفيلم على شبكة نتفلكس وقد لاقى إقبالاً كبيراً من متابعي هذه الشبكة، وبالرغم ان مدة الفلم تقارب الثلاث ساعات إلا ان الملل لا يتسرب للمشاهد فحجم العواطف والاحاسيس الجياشة التي تمتاز بها الأفلام الهندية تجعلك مشدوداً لمتابعة كل تفاصيله التي ابدع فيها المخرج والممثلين، وخاصة بطل الفلم(نجيب)، ويزداد التشويق والإثارة في الفلم عندما يعلم المشاهد ان احداثه مأخوذة عن قصة حقيقية حدثت مع شاب هندي مسلم قرر الذهاب للسعودية بعد ان باع كل ما يملك للحصول على تأشيرة عمل في السعودية ليحقق حلمه وحلم زوجته الحامل بمولدهم البكر في امتلاك بيت خاص بهم وتحسين وضعهم الاقتصادي.
تبدأ احداث الفيلم في مطار جدة عندما يصل بطل الفلم ويبحث عن كفيلة الذي لم يجده ليلتقطه احد السعوديين ويأخذه إلى مزرعته في وسط الصحراء ليُعزل عن العالم الخارجي تماماً ولتبدأ معاناته التي يسردها الفلم بكثير من التشويق والإثارة.
بعيداً عن سرد احداث الفلم المتوفر على شبكة نتفلكس واليوتيوب والكثير من المواقع، وبعيداً عن الاستقطابات حول الفلم وما دار حوله من لغط وانه موجه للإساءة للسعودية وتوجهات المملكة التحديثية، وبين من يرى انه فلم يطرح قصة حقيقية حدثت مع عامل اسيوي وافد ومن الممكن انها حدثت مراراً وتكراراً بصيغ واحداث مختلفة، ولا يجوز ان يخرج عن هذا الإطار، ارى ان هذا الفلم يطرح قضية في غاية الأهمية مرتبطة بحقوق الانسان وحقوق العمال في السعودية، وعلى المملكة التي تطرح في عهدها الجديد رؤية جديدة في مسيرة الدولة فيما اخذ يعرف برؤية ٢٠ ، ٣٠ ان تلتقط هذا الفلم من باب النقد البناء وتعيد النظر بمسألة الكفيل وحقوق العمال بشكل عام وخاصة العمالة الوافدة.
وهذا يضع هيئة الترفيه التي شكلها ولي العهد محمد بن سلمان محل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ألمحك فهذه الهيئة جاءت لتنسجم مع تطلعات المملكة الجديدة في التحديث، فاذا كان فيلم واحد يتحدث عن قصة حقيقية حدثت في المملكة يثير هذه الزوبعة من الذباب الإلكتروني الذي وجهته الهيئة للهجوم على الفلم، فهذا يجعل من الهيئة وسيلة للترفيه فقط وليس حمل رسالة فنية وثقافية و فكرية تحمل في بعدها تشكيل وعي يحفر في عمق المجتمع السعودي الذي عاش ردحا من الزمن في عزلة عن التطورات العالمية بفعل استخدام الدين بطريقة تصوره ضد الحداثة والتنوير، كما يجعلنا نتشكك من توجهات المملكة ورؤية ٢٠ ، ٣٠ بان هدفها هو تحييد الدين فقط وتصويره على انه سبب تخلف المجتمع السعودي لصالح التغريب، وبالتالي تمييع هوية الدولة والمجتمع وجعلهما في حالة سائلة، وهذا ايضاً يجعلنا نقف عند هذه الهيئة التي يترأسها رجل ذو خلفية امنية فتركي آل الشيخ رئيس الهيئة خريج كلية الملك فهد الامنية وخدم كعسكري و في وزارة الداخلية، فهل عدمت السعودية من المثقفين والمتخصصين ممن لديهم باع في المجال الثقافي والفني ليقود الهيئة ويضع فلسفة تنبثق عنها اهداف ثقافية وفكرية تنسجم مع روح العصر ولا تتعارض من تراث المملكة العربي والديني.
اخيراً وليس آخراً، للفن رسالة عظيمة شكلت في وجدان الناس والشعوب آثاراً عميقة بل ان المسرح والسينما غيرت كثير من المفاهيم والعادات بل والقوانين، ففي مصر رائدة الفن السينمائي والمسرحي في العالم العربي، احدثت كثير من الأفلام والأعمال الفنية انقلابات كبيرة في وجدان الشعب المصري والعربي، وسلطت الضوء على كثير من مشكلات المجتمع وقدمت حلول انعكست ايجاباً على المجتمع ومن أبرز هذه الأعمال الفنية نذكر فيلم “جعلوني مجرما” بطولة الفنان فريد شوقي وهدى سلطان ويحيى شاهين وإخراج عاطف سالم، والذي انتج عام ١٩٥٤ حيث ألقى الفيلم الضوء على أزمة من له سابقة إجرامية في الحصول على فرصة عمل شريف ليبدأ حياة جديدة صالحة، إلا أنه بعد رفض المجتمع له وعدم مساندته في فتح صفحة جديدة من حياته يضطر إلى الانتقام من جميع من ظلموه ويصبح مجرما بالاضطرار.
وصدر عقب عرض هذا الفيلم قانونا مصريا ينص على الإعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية، حتى يتمكن المخطئ من بدء حياة جديدة.
أما فيلم “أريد حلا” للفنانة فاتن حمامة والفنان رشدي أباظة، للمخرج سعيد مرزوق الذي انتج عام ١٩٧٥ فألقى الضوء على قضايا الطلاق وقوانين الأحوال الشخصية، حيث تلجأ بطلة الفيلم إلى القضاء للطلاق من زوجها بعد رفضه تطليقها، وتتعرض إلى مجموعة من المشكلات والعراقيل والعقبات التي تمس كرامتها خلال إجراءات طويلة ومعقدة، ثم يأتي الزوج بشهود زور إلى المحكمة يشهدون ضدها فتخسر القضية بعد مرور أكثر من 4 سنوات.
وساهم الفيلم في إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية، والسماح للمرأة المصرية بحق “الخلع” من زوجها، بعد أن ظلت زوجات كثيرات في مصر لعقود طويلة يبحثن عن حق الانفصال عن الزوج ويهدرن سنين عمرهن في الأمر دون جدوى.
وهناك الكثير من الأعمال الفنية التي سلطت الضوء على كثير من المشكلات ومنها الأعمال الفنية الخليجية كالمسرح الكويتي وسلسلة أعمال ناصر القصبي وعبدالله السدحان في مسلسلهم الشهير طاش ما طاش.
هيئة الترفيه السعودية على ألمحك اما ان تظهر بمظهر هئية تسعى لتحديث المجتمع من خلال أعمال فنية هادفة ذات رسالة واضحة ومحددة في بناء مجتمع يقوم على التنوع واحترام الاخر ضمن توجه لا يضع الدين والمورث الشعبي في مواجهة الحداثة، وإما ان تظهر بمظهر سطحي هدفها الهجوم على الدين وترسيخ ثقافة الترفيه من اجل الترفيه، بحيث تخلق جيل منسلخ عن قيمه وموروثه الشعبي لصالح التافه من الفن والفنانين الذي تعج بهم بلادنا.
*كاتب وباحث وناشط سياسي أردني