المتوكل طه
صورتان: شابٌ يقتل امرأةً بسكين. وجنود يقتلون، ثم يرمون الشهداء بأقدامهم من فوق السطوح. . ما يعني أن العنف لا يتجزّأ، وهو رديف وامتداد للعنف الأكبر المحيط بنا والمتفجّر بين أقدامنا. والاحتلال بظلاله الثقيلة هو السبب الرئيس في توالد العنف، بكل أشكاله، لأن الاحتلال وحلفاءه سبب الأزمات كلّها(الاجتماعية والاقتصادية والوطنية والتربوية. . )، وأن الأنظمة التي تقهر مواطنيها هي “احتلال” آخر مشابه، سينتج أزمات تتواتر وتكون سبباً لكل ما يعاني منه المجتمع من عنفٍ ومهابط وفوضى وتدهور. وبالتالي، لا يمكن فصل “العنف” عن مرجعياته ومولّداته الأساسية، المتمثّلة بأنظمة القهر والاستلاب، الاحتلالية أو الملتبسة. بمعنى أن “الاحتلالات” هي السبب الثاوي والمُضمَر، خلف كل شكل من أشكال العنف، وبإمكان الباحث أن يُفكّك أيّ دافع للعنف، فسيجد الاحتلالَ أو النظامَ المُتسلّط القاهر، هو مَن أنتج وخلّق الأسباب والمناخ المواتي للعنف، أيّاً كان شكله أو صيغته.
العنف الاجتماعي: يقول المختصّون: بأن التلوّث السمعي والبصري والبيئي والأخلاقي، وغياب المساحة الحضارية، بمعنى عدم توفّر الإمكانيات وإشباع الحاجات بطريقة طبيعية، هو ما يؤدّي إلى العنف، إضافة إلى أن انتشار الدماء بهذا الجنون في غير مكان. كما أن انتفاء الهَيبة عن النبات والحيوانات، مقدّمة أولى لانتفاء الهيبة عن الإنسان. علاوة على أن الأُسرة المأزومة اقتصادياً واجتماعياً، لا تستطيع أن تنتج أبناءً ذوي معايير وأخلاقيات، لأن مثل هذه الأُسرة لا يمكن أن توفّر لأبنائها الحصّة الوجدانية التي يحتاجها كل فرد فيها، بل ستنتج أبناءً مقهورين وعناصر مُعادية للمجتمع، سيُسقطون “قهرهم” على الأشياء من حولهم، وهذا ما يُسمى ب”الإزاحة”. وهؤلاء الأبناء هم أكثر قابليّة للإدمان وممارسة العنف. كذلك فإن العلاقات المضطربة داخل الأُسرة، وضرب الأمّ أمام أبنائها والعنف اللفظي، وضرب الأولاد والطلبة في المدارس، يُنتج بالضرورة جيلاً مهزوزاً خائفاً وقابلاً للابتزاز وجَباناً، وبلا شخصية حاضرة، وسيجعل هذا الجيل حاقداً وبلا معايير أو انتماء. ولعلنا نرى بعض تداعيات هذا العنف على الأطفال من تبوّلٍ لا إراديّ وعصبيّة وعدم انتباه ونومٍ ثقيل ودونيّة وانعزال وتوجّس وعدم شعور بالأمان وتوتّر في لغته الجسدية، وقد يمارس العنف على ما دونه من نباتٍ وحيوانٍ وأشياءٍ وزملاء. وقد أجمع الباحثون على أن هؤلاء بحاجة إلى علاج سلوكيّ بالفعل. كما أن لدينا أُميّة تربوية وعاطفية، وليس لدينا مناهج ومساقات لتعليم الشباب المُقبل على الزواج، لتأصيل مداركهم وتوجيههم وتعليمهم ما يُسمى بـ “الأَبَويّة”. إن العنف في أيّ مجتمع يطرح على مؤسساته سؤال “القيمة” أي قيمة الإنسان في المجتمع، ويستدعي مراجعة جادّة لتأهيل الفئات الهشّة، ويستوجب النظر في أسباب وحالات وظواهر التوحّش والتنمّر والعنف والكراهية وأسبابها. . لأن ثقافة البلطجة، وانهيار المعايير والأخلاق، وعدم الاعتراف بالآخر الوطني، والانتحار، يعني أن المجتمع قد خرج من حزام الأمان ودخل إلى نفقٍ أسودٍ شائكٍ وعنيف وخطير. ولنعترف بأننا لم نُربِّ أولادنا، تماماً، على التوافق والتآلف، بقدر ما كبروا على مفاهيم الاستقطاب والانشطارات والانقسامات الطائفية والفكرية والإثنيّة، داخل المجتمع الواحد! ما يؤدّي إلى انغلاق الحوار، وإثارة العنف بين الآخر الوطني ومواطِنه، كما يعمّق التشقّقات في الهوية الوطنية الجماعية، ويخلق مناخاً مُواتياً للتوترات والكراهية والعنف. وتجدر الإشارة إلى أن التديّن الكاذب المنقوص، أو المُشوَّه، أو البراغماتي، أو الصِراعي، أو الوسواسي، أو الشكلاني، مصحوباً بالتطرّف والعنف اللفظي والوجداني والسلوكي، هو الأرض الخَصبة للعنف. فالدّين والأخلاق يجب أن يظهرا وينعكسا، بأناقة وموضوعية، في السلوك، بعيداً عن احتكار “الحقيقة” أو الادّعاء بأن ما نعتقده “مقدّساً ” يجب أن يخضع له الآخرون، أو أنك “وكيل” الله، عز وجلّ، على الأرض. لقد أجمع الدّارسون على أن الجهاز العصبي يُراكم ويُخزّن كلَّ الضغوطات، ما يجعلنا نحذّر من انفجاره، أي علينا أن نوفّر المتنفّسات للجهاز العصبي، ونعمل على خلق الحدائق الداخلية في الأنفس والأرواح، كما علينا أن نُخرج الناس من الدوائر المؤلمة ومن الشّحن السلبيّ والكآبة والمُنغّصات وأجواء التوتّر، حتى لا ينفجروا نفسيّاً أو عضوياً. وعليه، فإننا نتّفق مع كل ما قاله العلماء والدارسون في هذا الشأن، ونؤكّد معهم على ضرورة البحث عن مصادر السعادة ولطائف الحياة، وعن الفرح والطاقة الإيجابية، وعن كلّ ما يُرقّق القلوب، وعن المشاعر الحلوة والحنان والعطاء والتسامح. إن المجتمع المُعافى هو الذي يؤثّث حياته بالحبّ والتراحم والإحساس بالآخر، ويوفّر التكامل النفسي والسلام المُتَّزن. فلنبحث عن كنز السعادة وعن شموس الفرح، كما أنّ الاستعانة بالمختصّين والباحثين في علم الاجتماع النفسيّ، تساعدنا على سبر غور الظواهر الناتئة في مجتمعنا، وتقودنا إلى تفكيكها والخلاص منها بوعي وإدراك، وتحول دون تفاقمها وانتشارها.
العنف الاحتلاليّ:
كيف سيكون الحال إذا ما كان العنفُ كاملاً شرساً مفتوحاً منفلتاً وحشيّاً ولا يفرّق، وبكل الوسائل والأشكال التدميرية، التي تستهدف كل شيء من بشر وأرض وحارات وشجر وذكريات ومقابر ومشافي ومدارس. . ويُلاحق الناسَ والموجودات في كل الأماكن والزوايا. . حتى لا يبقى مكانٌ آمن؟ كيف؟إن هذا السؤال الذابح هو ما نتقدّم به، بعد أن رأينا العنف الإباديّ الفاشيّ المجنون في كل أماكن قطاع غزة، وفي مناطق ساخنة في الضفة، فكيف سيكون الوضع، وما هو المستقبل الذي ينتظر المجتمع المطحون، الذي انصبّ عليه كل هذا العنف، الذي تخطّى منسوب العنف المتوقّع؟وخاصة على الأطفال؟كيف سيتصرف أطفال غزة، عندما يكبرون؟وذاكرتهم ترغي بكل ما عصف بأذهانهم ووعيهم ومداركهم، وأمام أعينهم البريئة، من موت وتعدّيات وتجريف وإذلال وتهجير وهدم واغتصاب وجوع ومرض وهلع. . ؟هل سأل العالَم كيف سيتصرفون مستقبلا؟وماذا سيحمل قاموسهم؟وماذا سيندّ من سلوك عنهم؟وأيّ معمورة ستتسع لهم؟إن كل الذين يتحمّلون الأذى والإساءة وقتل مَن يحبون، لا ينسون. سيصبح هذا الغضب فيروساً داخل هؤلاء، فهل من عجب أن ثلثي الأطفال، في إحدى المدارس في غزة، مؤخراً، أرادوا أن يكونوا شهداء!هل تعرفون معنى ذلك؟ وأسأل:كيف لمشاهد الخوف والرعب التي عايشها الأطفال أن تمّحى من ذاكرتهم؟ستلاحقهم، وتعرّضهم للإضطرابات والصدمات النفسية التي سترافقهم طوال حياتهم. وكيف يمكن التخفيف من الصدمات النفسية لديهم؟هل انتبهنا وعملنا على التدخلات النفسية من قبل الأطباء والمرشدين النفسيين لمعالجتهم والتخفيف من حالاتهم، أم أن الحدث الأكبر(الحرب المتواصلة على غزة) ما فتئ يحول دون ذلك؟لكن جميع أطفال غزة تقريبا بحاجة لدعم في مجال الصحة النفسية بسبب الحرب المتواصلة، ولا مَن يلتفت!وسنحتاج إلى ذلك في الضفة الغربية، أيضا! وأتوقّف أمام هذه”الحاضنة المشوّهة”التي تلفّ الكبار والصغار في دوّامتها الغوليّة المجنونة، وأقول:إن هذا الوضع سينتج أطفالا أقرب إلى القنابل الموقوته أو يصبحون جثثا محتملة مؤجّلة. . فالأُسْرة، بل المجتمع كله، بحاجة إلى بيئة آمنة، وإلى توفير الاحتياجات الأساسية، ولمَن يدْرأ المخاطر ويصدّ التهديدات عنهم. . وبحاجة إلى بيئة نفسية مُعافاة، مليئة بالأمن والحبّ والتعاطف والمساندة والاحتواء وحفظ الكرامة والثقة والاحترام. . لكن كل ما ذكرتَ غير متوفّر! الأطفال بيئة خصبة وورق أبيض نظيف، تنتظر مَن يزرعها ويؤصّل مداركها ويعبّئ وجدانها، لأنها مرحلة تتشكّل فيها المعايير والضمير والسلوك. ألا ترون أن أطفالنا عراة، دون حماية ومناعة، وبلا حصانة، ودون أيّ مما ذكرت؟ يبدو أن المسؤولين، هنا وفي الإقليم والعالَم، لم يدركوا بعد، أن الحرب تعصف بأطفالنا، وتلقي بهم في هوّة الهلاك والعدميّة ودوّامات النتوء المخيف. . وأن ما قاله جان بول سارتر، في مقدمته لكتاب فانون “بأن العنف في المستعمرات لا يهدف إلى إبقاء الرجال الذين يتعرضون للاستعمار بعيداً، بل يسعى أيضاً إلى تجريدهم من إنسانيتهم” هو قول مصيب، إضافة إلى أن أولئك الذين ينظّمون مثل هده العنف الوحشيّ لا يفهمون الغضب الرهيب الذي ولد من فترة طويلة من الإهانة والعنف العشوائي والإساءة والتقتيل، وأنه سينعكس عليهم بالضرورة والفعل. إنه عنف المُستعمِر “المتفوّق” الممتدّ عبر تاريخ أسود ينهض على التطهير العرقي وفظاعات الإبادات ومحاكم التفتيش وظواهر الفاشية والنازية والتفتيش في الضمائر وإفناء الشعوب بالقنابل النووية. إن هذا الغربي العنيف السّاديّ، لا يأبه، البتة، بما يخلّفه عنفُه من أمراض وتداعيات مُهلِكة، ولعل ما تفعله”اسرائيل”وريثة الغابة الدموية، يؤكد ما نقرره ونقوله. وإن هذا العنف سوف يخلق أجيالا لا تطلب سوى الانتقام. . وكما قالوا:إذا كانت لديك أيديولوجية هيمنة، فيجب عليك بالطبع استخدام العنف. وما فتئوا يستخدمونه بجنون غير مسبوق.
ونصمت كما لم نصمت، دون مبالاة. . وجنون.
شاهد أيضاً
كشف المستور في كتاب الحرب المنشور!
محمد عزت الشريف* لم يكن طوفان الأقصى محضَ صَولةٍ جهادية على طريق تحرير الأقصى وكامل …