نادية حرحش*
المصاب جلل بفاجعة اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله بالتأكيد. والأسباب لهذا الشعور تتعدى مسألة خسارة شخصية بحجم الراحل عن هذه الدنيا الفانية. ربما لأننا لم نشهد على مدار العقود شخصية بقوة وصلابة وتحدي حسن نصرالله، وكأن لسان حالنا كان يقول، هذا هو القائد العربي الذي تحتاجه كل دولة لتواجه استعمار الحجر والبشر المتربص بنا بهذه الأوطان السليبة. بكل ما كان على حسن نصر الله من خلافات وتوافقات، لا يمكن ان نتجاوز خسارته ببضع كلمات او معلقات من الرثاء. ولكن بالتأكيد، ان نصر الله بموته صار ايقونة ابدية وسط محبيه ومعجبيه يرتقي في قيمته الى الاولياء الصالحين ممن سار على دربهم في اعتقاده.
رحيل حسن نصر الله الدنيوي سيؤثر علينا هنا مؤقتا، ولكن بقاءه الابدي هو ما يجب ان يؤرق من انتظر غيابه ومن قتله. لأن هكذا شخصيات قيمتها المعنوية كبيرة بدرجة كنا نشهدها في حياته، ولنا ان ننتظر ونرى اثرها الآن في رحيله. ولربما يبقى ما أقوله لكل من يرتقي شهيدا في هذه المحن، لقد كان طالبا للشهادة ونالها، فهنيئا له.
ad
لا اعرف ان كان هناك مكان للتوقعات في ظل ما يحدث الا انتظار ما تنجم به ليلى عبد اللطيف. فنحن نعيش هذه الطامة من الظلمات وكأننا في قعر الاف غابرة من السنين، عندما كانت التكهنات والتوقعات ما يبني عليها البشر طرقاتهم. ولربما علينا العودة لتلك الكتب والتبصر من خلالها، نحن بالتأكيد في زمن يتحقق فيه الوعد والوعيد.
ولا اعرف كذلك إن كان هناك مكان للتحليل، فلقد تصدعنا منذ بداية هذه الحرب الغاشمة من التحليلات الجوفاء التي لم تستطع ان تقدم الا خطابات فارغة الا من الشعارات التي لم يعد لها معنى او اثر. ربما احتجنا لبعض الطمأنينة، التخدير، الأمل… لانتصار ممكن او محتمل.
ربما نستحق هذا بعد كل هذه التضحيات.
ولكن الحقيقة أخرى. في الحروب ينتصر من يملك السلاح. ينتصر من يملك القوة ولا تخترقه قوى الأعداء كالماء المخترقة للصخور. واذا ما بدأت باغتيال حسن نصر الله، فلا يمكن الا نتوقف عند التساؤل الذي لا يمكن تجاوزه، كيف تم اختراق هكذا شخصيات بهذه الاريحية؟ منذ اغتيال إسماعيل هنية، وفؤاد شكر كان من الواضح ان الاختراقات الاستخباراتية على مستوى يفوق الاستخبارات الاعتيادية. ما شهدناه على مدار الأيام الأخيرة في لبنان منذ تفجيرات البيجيرات وما تلاها لا يترك مجالا للشك بأن الاختراقات على اعلى مستوى ممكن. يبدو المشهد وكأن إسرائيل خرجت للصيد بأهداف محققة وممكنة. كيف يمكن لحزب وسط حرب وتهديدات واختراقات ان يكون امينه واكبر مكوناته من شخصيات على مرمى الاكتشاف بهذه السهولة. العملاء في هذه الحالة ليسوا شبكة هواة او خونة او مرتزقة عاديين. هذا اختراق لأعلى مستوى في هذه المنظومة. وها هي إسرائيل ترد وتتوعد بالمزيد.
رأينا مشاهد غير مختلفة عن قنص الأشخاص بدقة بالضفة الغربية على مدار الأسابيع الأخيرة كذلك. وكما في كل مرة من هكذا فواجع، الوجع ليس بارتقاء شخص اختار الشهادة طريقا له، ولكن بمن أوصل القاتل الى ذلك الهدف.
ربما نستطيع ان نتوقف برهة هنا، ونفهم ربما الفرق بين ما يجري في غزة وما يجري خارجها.
كنت قد قرأت الرواية التي كتبها يحي السنوار “الشوك والقرنفل” واعترف انني تفاجأت بالشخصية لأنني كنت أرى في السنوار ملامح اكثر قسوة في الحقيقة. من تلك الرواية يستطيع المرء أن يفهم أمرين وسط ما يجري في غزة اليوم من دمار شامل: الأول هو قدرة الانسان في غزة على التحمل، في تلك الرواية نفهم بداهة ان يستطيع المرء ان يتحمل هكذا حياة، فبطل تلك الرواية يكبر على الاختباء في نفق شقته امه لتختبئ فيه العائلة في حرب ال١٩٦٧، نفهم كيف يعيش المرء في الضير والقليل. نفهم كيف تتولد مشاعر الايمان وتتحول الى عقيدة، وتتشكل القضية الوطنية من خلالها فتصبح الدنيا والدين. اما الأمر الاخر وهو مجابهة العملاء قبل مواجهة الأعداء. يضع الكاتب اصبعه على كارثية الجوسسة والعمالة ونعرف من واقع حياة الكاتب ان هدفه كان هذا في نضاله ضد الاحتلال. وما نعيشه اليوم منذ أكتوبر الماضي هو تجسيد لفهم كيف استطاعت حماس ان تنفذ مخططها في السابع من أكتوبر، والاهم عدم مقدرة إسرائيل حتى هذه اللحظة من الوصول الى أعضاء حماس المستهدفين، بل أكثر للمختطفين على الرغم من كل ما دمرته ولا تزال تدمره من كل ما يمكن تدميره ولا يمكن تدميره في غزة.
قد يبدو وسط كل هذا التفوق الذي تبديه إسرائيل بكل امكانياتها العسكرية والاستخباراتية الفشل الأكبر والاهم في تاريخها. من جهة استطاعت ان تغتال اهم شخصية في تاريخ اغتيالاتها الغادرة، عبر ما شاهدناه من مشاهد أقرب الى الأفلام البوليسية الشهيرة من اختراقات وتقنيات عالية واسلحة دقيقة وبعيدة ومتطورة للغاية باختراق قوة عسكرية وامنية كحزب الله استطاعت كبح تهديدات إسرائيل على مدار عقود، ولكنها لم تستطع ان ترصد او تتكهن او تتوقع او تمنع الانزال العسكري في السابع من أكتوبر على ايريز الذي لم تكن ذبابة تستطيع التحليق فيه بدون رصد. وان كان ذلك الإخفاق الكبير، فان عدم تمكنها من الوصول الى الشخصيات المستهدفة والأكثر المختطفين بعد عام من الدمار والمحاولات والاختراقات والقتل والتنكيل والتعذيب والاجتياحات المستمرة هو الفشل الأكبر.
ولعل السبب في هذه يتمثل بمعضلة بسيطة: عدم اختراق حماس من قبل العملاء.
وكنقطة أخيرة، لا بد من تناول ما يضعنا دوماً في خانة الخاسرين، الا وهو تمزقنا الاجتماعي والحزبي والفصائلي. ربما لهذا السبب استطاعت إسرائيل اختراق حزب الله في لبنان. فالطائفية والانقسام هما عنوان لبنان التاريخي. وهي ما يمكن إسرائيل فينا حتى هذه اللحظة من اهتراء في النسيج الاجتماعي الفلسطيني الذي سببه الانقسام الفصائلي. ولنا ان نتعظ من إسرائيل بعض العظة هنا، بينما نراها منقسمة على نفسها بين معارضة لا تتوقف عن محاولة الإطاحة برأس الحكم، وبين خلاف حقيقي بين أعضاء الحكومة بشراسة، فلقد كانت إقالة غالانت محور الحديث و استقالات قادمة بالجيش على الطاولة، واليسار او اليمين ممن خرجوا من الحكم يجولون العالم كحمائم سلام ويخرجون بخطط سلام !! رأينا كيف توحدوا جميعا ضد عدوهم وتحول الجميع الى صوت واحد متناغم يقف صفا واحدا يصفق بنفس الإيقاع من الترحيب والتهويل للحرب. أولمرت الذي كان للتو يحتفل باتفاق مع القدوة رفع الكأس بنخب اعتراف باغتيال مغنية.
في المقابل، القدس تبكي نصر الله بالمقاهي، تلطم على الفقدان وسط الموسيقى الصاخبة وتندب الظلم وترفع امرها الى الخالق.
بيننا وبين النهوض بأنفسنا مسافات وعي تتجسد بمبدأ ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فنحن بما عليه… قد ولّي علينا.
*كاتبة فلسطينية