د.سناء أبو شرار*
بعد غزة الحياة تتغير، ليس لأهل غزة فقط بل للبشرية جمعاء, غزة تجعلنا جميعاً نقف أمام المرآة ليس لنرى صورنا فبعد غزة لم يعد لنا صور ولا وجوة ولكن لنرى بشاعة فئة من البشر ونتسائل أمام المرآة التي تعرض صور القتلى والقطع المتناثرة والدماء التي تنزف بلا توقف، ماذا تبقى من الانسانية، وهل البشرية أصبحت بمواصفات جديدة لابد أن نتعرف عليها من جديد.
ما حصل في غزة لابد أن يغير نظرتنا إلى الحياة، لابد أن يزرع الخوف في الأرواح والقلوب حتى لمن لا يهمه أمر غزة حتى ولو كان يسكن في القطب الشمالي ولا يعرف حتى أين غزة هذه. لابد أن نشعر بقشعريرة الخوف من وجود مثل هؤلاء البشر الذين يتجولون بيننا ويلقون الخطب الرنانة ويتقنون فنون الكلام والمال والسيطرة، لابد أن نعيد تنظيم أفكارنا كبشر وليس كأهل غزة.
هل نستطيع وهل سوف نستطيع وكيف نستطيع أن نعيش مع هؤلاء هذا إذ سمحوا لنا بالحياة، غزة تقول لكل من في الأرض أنك تحيا لأننا نسمح لك بذلك، وإنك إن قلت لا سوف يصبح بيتك ركام وجسدك أشلاء وذكرياتك هراء متناثر في هواءٍ فاسد متعفن جلبته تلك الفئة من البشر التي تزينت بالانسانية وتعطرت بالقانون الدولي وأختبأت خلف المحاكم الدولية التي لم تحمي سوى حقوق المحتل والمستعمر ومرتكبي الإبادة وأخفت وراء قناعها هميجة لم يعرف مثله التاريخ.
غزة تفرض عليك السؤال: متى سوف يأتي دورك؟ وهل أنت فعلاً حر في قرارك؟ أم أن غزة قالت لك وبكل جرأة الموت والدمار أنك لست حراً أنك تسير على الأرض ولكن بلا إرادة بلا شرف ولا كرامة، وأن العبودية القديمة أصبحت فعلاً مهترئة ولا تصلح للعبودية الحديثة، نحن نحيا عبودية من نوع مختلف، عبودية الأرواح والخيال والقرار والكرامة، لا نريد وربما لم نعد نستيطع أن نقول لأنفسنا ما هو الهدف من الحياة، هل الهدف منها المتعة والتسوق كما تم برمجة عقول البشر من عشرات السنين على أن يجدوا سعادتهم فقط في كل ما يتعلق في الجسد وما تستمع به العيون والأجساد!
ولكن أتت غزة لتخبرنا بكل تجرد الوجود بأن كل هذه المتع التي نلهث وراءها تفقد بريقها حين يتم هدر الانسانية وحين يتم تمزيق الكرامة وسحق الأرواح، ما يثير الإزعاج للقتلة والمجرمين ليس جرائمهم فهي مدعاة فخرهم بل حالة الإستيقاظ التي قد نطال كل البشر وليس فقط أهل غزة، فأهل فلسطين أساساً لم يعرفوا طعم النوم الهانيء منذ عقود.
غزة خلخلت القاعدة الأخلاقية للبشر، غزة تقطعت إلى أشلاء ولكن وجة البشرية هو الذي تشوه، لم نعد ننظر لبعضنا البعض كالسابق، نخاف أن يُطل وحشٌ من أشخاص أعتبرناهم أمتنا وأهلنا، نخشي من سكين أو رصاصة أو حتى من الجوع والعطش، نحن لسنا كالسابق، لقد غيرتنا غزة، تغيرنا وربما نحتاج أن نتعرف على بعضنا البعض من جديد ونتسائل حول أخلاقنا وعقيدتنا، من نحن وما هو مستقبلنا؟
ولكن هناك شيءً ما في تلك الصور تجعل البشر يقفون صامتين، تجعل الأسئلة تحفر عمقياً في الأدمغة بأنه هناك شيءً آخر غير المتعة، شيء آخر غير الطمع شيء آخر غير الرفاهية، هناك عالم موازٍ لعالمنا مجرم وقاتل وخطير على كل البشر، بعد غزة لا يمكن لأني انسان عاقل مدرك أن يشعر بالأمان، لابد للصوت الخافت أن يعلو وأن تدرك البشرية جمعاء أنها في خطر بوجود هؤلاء. نعم غزة غيرتنا وغيرت العالم، غزة أزالت الأقنعة، لأنها خارج الحماية، خارج الإنسانية، مطرودة من البشرية بقرار دولي نافذ، غزة أخبرتنا وطويلاً وكثيراً أنه هناك شيء آخر في الحياة غير المتعة والمال والقوة، هناك الكرامة والشرف والعقيدة حتى ولو في أشلاء معلقة على الحائط المهدوم، حتى ولو في بطون جائعة، حتى ولو في كيس أسود نضع به بعض الملابس القديمة ونرحل إلى اللامكان، حتى ولو في قبرٍ غريب منسي لا يزوره أحد.
*كاتبة فلسطينية
شاهد أيضاً
ترمب ومعضلات الشرق الأوسط!
د. سنية الحسيني* من الواضح أن الشرق الأوسط الذي خرج منه دونالد ترامب في مطلع …